الآية 50
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾
موضع إذا نصب كما تقدم وهو عطف على ما مضى فكأنه قال: وإذ كروا إذ فرقنا بكم البحر: وذلك من جملة نعم الله تعالى التي عددها عليهم مما فعله مع اسلافهم ومعنى فرقنا بكم البحر أي فرقنا بين الماءين حتى مررتم فيه وكنتم فرقا بينهما.
اللغة:
والفرق والفصل والقطع نظائر: والفرق يقتضي الجمع يقال فرق فرقا وافرق المريض افراقا وافترق الشئ افتراقا واستفرق استفراقا وفرقه تفريقا وتفارقوا تفارقا وتفرق تفرقا وفارقه مفارقة وانفرق انفراقا والفرق موضع المفرق من الرأس والفرق تفريق ما بين الشيئين والفرق فرجك ما بين شيئين تفرق بينهما فرقا، حتى يتفرقا ويفترقا، وتقول تفارق هؤلاء الصبحة أي فارق بعضهم بعضا، وافترقوا وتقول: مشطت الماشطة كذا وكذا فرقا أي كذا وكذا ضربا والفرق طائفة من الناس قال أعرابي لصبيان رآهم هؤلاء فرق سوء والفرق: الطائفة من كل شئ، ومن الماء، إذا انفرق بعضه عن بعض وكل طائفة من ذلك فرق وقوله: " فكان كل فرق كالطود العظيم " (1) يعني الفرق من الماء، والفريق الطائفة من الناس والفرقة: مصدر الافتراق وهو أحد ما خالف فيه مصادر افعل والفرقان: اسم للقرآن وكل كتاب انزل الله وفرق به بين الحق والباطل فهو فرقان وسمى الله تعالى التوراة فرقانا وقوله: " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " (2) كان يوم بدر ويوم أحد فرق الله بين الحق والباطل والفرق هو الفلق والمفرق هو مكيال لأهل العراق والفرق: الخوف تقول: رجل فروقة وامرأة فروقة والفعل فرق يفرق من كذا فرقا وقوله: " وقرآنا فرقناه " (3) مخفف - معناه أحكمناه كقوله: " فيها يفرق كل أمر حكيم " (4) وتقول: مفرق ما بين الطرفين وافرق فلان من مرضه افراقا إذا برئ ولا يكون الافراق إلا من مرض لا يصيب الانسان إلا دفعة واحدة: نحو الجدري، والحصبة، وديك أفرق: إذا انفرق عرفه وتيس أفرق: إذا تباعد طرفا قرنيه ورجل فروقة وكذلك المرأة: مثل، نسابة وعلامة وجاء مصدر فرقته تفرقة والفرق الذي جاء في الحديث: ما اسكر الفرق فالجرعة منه حرام، مكيال يعرف بالمدينة وفرقة من الناس ومعه فرق واصل الفرق الفصل بين الشيئين والفريقة حلبة تطبخ بتمر للنفساء وغيرها والبحر يسمى بحرا وهو انبساطه وسعته ويقال استبحر فلان في العلم وتبحر لاستبحاره إذا اتسع فيه وتمكن منه (5) ويقال تبحر الراعي في رعي كثير قال أمية الصغير:
انفق نصابك في نفل تبحره * من الأباطح واحبسها بخلدان
وتبحر فلان في الماء ومن ذلك بحيرة طبرية وهي عشرة أميال في ستة أميال وقيل: هي علامة خروج الدجال إذا يبست، فلا يبقى منها قطرة ماء وبحرت اذن الناقة بحرا إذا شققتها وهي البحير وكانت العرب تفعل ذلك إذا أنتجت عشرة ابطن فلا تركب ولا ينتفع بظهرها فنهى الله عن ذلك والسائبة التي تسيب فلا ينتفع منها بظهر ولا لبن والوصيلة في الغنم كانت إذا وضعت أنثى تركت وان وضعت ذكرا أكله الرجال، دون النساء وان ماتت الأنثى الموضوعة اشتركوا في أكلها، وان ولد مع الميتة ذكر حي اتصلت به، كانت للرجال دون النساء ويسمونها وصيلة وقد قيل غير ذلك سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والباحر الأحمق الذي لبس في حديثه إذا كلم بقي كالمبهوت وبحراني منسوب إلى البحرين ودم بحراني وباحر: إذا كان خالص الحمرة من دم الجوف والعرب تسمي المالح والعذب بحرا إذا كثر ومنه قوله: " مرجع البحرين يلتقيان " (6) يعني المالح والعذب وأصل الباب الاتساع والبحر: هو المجرى الواسع الكثير الماء واما المالح: فهو الذي لا يرى حافتيه من في وسطه، لعظمه وكثرة مائه فدجلة بحر بالإضافة إلى الساقية وليست بحرا بالإضافة إلى جدة، وما جرى مجراها.
المعنى:
ومعنى قوله " فرقنا بكم البحر " أي جعلناكم بين فرقيه تمرون في طريق يبس كما قال تعالى: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " (7) وقال: " وأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فكان كل فرق كالطود العظيم " (8) وقال بعضهم في معنى فرقنا يعني بين الماء وبينكم أي فصلنا بينكم وبينه حجزنا حيث مررتم فيه وهذا خلاف الظاهر، وخلاف ما بينه في الآيات الأخر التي وردت مفسرة لذلك، ومبنية لما ليس فيه اختلاف وقوله: " وأغرقنا آل فرعون ".
اللغة:
قال صاحب العين: الغرق: الرسوب في الماء ويشبه به الدين والبلوى والتغريق والتغويص والتغييب نظائر والنجاة ضد الغرق كما انها ضد الهلاك يقال غرق غرقا وأغرق في الامر اغراقا وغرقه تغريقا وتغرق تغرقا ورجل غرق وغريق وغرقت السيل وأغرقته إذا بلغت به غاية المد في النفوس والفرس إذا خالط، ثم سبقها: يقال اغترقها والغرق من اللبن القليل قال ابن دريد: غرق يغرق غرقا في الماء وغرق في الطيب، والمال واصله في الماء وكثر فاستعمل في غيره وكذلك غرق في الذنوب وأغرق في الامر يغرق إغراقا: إذا جاوز الحد فيه واصله من نزع السهم حتى يخرجه من كبد القوس واغرورقت عيناه: شرقت بدمعها وجمع غريق: غرقى واصل الباب الغرق: الرسوب في الماء وقوله: " وأنتم تنظرون " قال المفسرون: وأنتم ترون ذلك وتعاينونه.
اللغة:
والنظر والبصر والرؤية نظائر في اللغة يقال نظر ينظر نظرا وانظر ينظر انظارا وانتظر انتظارا واستنظر استنظارا وتناظر تناظرا وناظره مناظرة قال صاحب العين: نظر ينظر نظرا - بتخفيف - المصدر وتقول: نظرت إلى كذا - من غير ذكر العين - ونظرت في الكتاب ونظرت في الامر وقول القائل انظر إلى الله تعالى، ثم إليك معناه اني أتوقع فضل الله ثم فضلك ويقال: نظرت بعلمي ويقال انظر الدهر إليهم أي أهلكهم قال الشاعر: نظر الدهر إليهم فابتهل والنظر: الاسم من نظر.
وقوله: (لا ينظر إليهم) أي لا يرحمهم والمنظور من الناس هو المرجو فضله. نعت به السيد.والنظور: الذي لا يغفل عن النظر إلى ما أهمه.والمناظرة ان تناظر أخاك في امر تنظر أنت في ذلك وينظر هو فيه كيف تأتيانه.
والمنظرة موضع في رأس جبل يكون فيه رقيب ينظر فيه إلى العدو ويحرس أصحابه والمنظرة منظرة الرجل إذا نظرت إليه أعجبك أو اساءك.تقول: انه لذو منظرة بلا مخبرة والمنظر مصدر كالنظر.والمنظر: الشئ الذي يعجب بالنظر إليه ويسر به تقول: ان فلانا لفي منظر ومسمع وفي ري ومشبع أي فيما أحب النظر إليه.ونظار بمعنى انتظر في الامر.وناظر العين.النقطة السوداء الخالصة الصافية التي في جوف سوداء العين مما يرى انسان العين والنظير: نظيرك الذي هو مثلك.والأنثى نظيرة.وجمعه نظائر في الكلام والانشاء.ونظرته وانتظرته بمعنى واحد ويقول انظرني يا فلان أي استمع إلي لقوله: " لا تقولوا راعنا وقولوا انظرا " (9) وتقول: بعت فلانا فأنظرته.أي انسأته والاسم النظرة.
ومنه قوله: " فنظرة إلى ميسرة " (10) أي فانتظار.واستنظر فلان - من النظرة -: إذا هو سأل والنظر توقع أمر تنتظره وبفلان نظرة أي سوء هيئة وقوله: " انظرونا نقتبس من نوركم (11) أي انتظرونا.واصل الباب كله الاقبال نحو الشئ بوجه من الوجوه.
وقال قوم: إن النظر إذا كان معه إلى، لا يحتمل الا الرؤية.وحملوا قوله " إلى ربها ناظرة " (12) على ذلك وقالوا لا يحتمل التأمل.وذلك غلط، لأنهم يقولون: إنما انظر إلى الله ثم إليك بمعنى أتوقع فضل الله ثم فضلك.
وقال الطريح ابن إسماعيل:
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جرتني نعماء (13)
وقال جميل بن معمر:
اني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر (14)
وقال آخر:
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمان تأتي بالفلاح
واتوا ب? (إلى) على معنى نظر الانتظار والصحيح ان النظر لا يفيد الرؤية وإنما حقيقته تحديق الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته ولو أفاد الرؤية، لما جعل غاية لنفسه، الا تراهم يقولون: ما زلت انظر إليه ولا يقولون ما زلت أراه حتى رأيته، ولأنهم يثبتون النظر وينفون الرؤية يقولون: نظرت إليه فلم أره ولا يقولون رأيته فلم أره.
المعنى:
فإذا ثبت هذا، فالأولى ان نقول: إن تأويل الآية " وأغرقنا آل فرعون " وأنتم مقبلون عليهم متوقعون له وقال الفراء قد كانوا في شغل من أن ينظروا مستورين بما اكتنفهم من البحر من أن يروا فرعون وغرقه ولكنه كقولك: قد ضربت وأهلك ينظرون.فما أتوك، ولا أعانوك.ومعناه وهم قريب بمرأى ومسمع ومثله قوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " (15) وليس ههنا رؤية، وإنما هو علم، لان الرؤية تستعمل في مثل ذلك يقول القائل رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه وهذا الذي ذكره الفراء محتمل مليح، غير أنه مخالف لقول المفسرين كلهم فإنهم لا يختلفون أن أصحاب موسى رأوا انفراق البحر والتطام أمواجه بآل فرعون، حتى غرقوا فلا وجه للعدول عن الظاهر مع احتماله ولأنهم إذا عاينوا ذلك، كانوا أشد في قيام الحجة، وأعظم في ظهور الآية وذكر الزجاج وجها آخرا قال: معناه وأنتم بإزائهم كما يقول القائل: دور آل فلان إلى دور آل فلان أي هي بإزائها، لأنها لا تبصر.
قصة موسى (ع):
وقصه فرعون مع بني إسرائيل في البحر.ولا نعلم جملة ما قال ابن عباس: ان الله أوحى إلى موسى " ان أسر بعبادي إنكم متبعون " (16) فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا " فاتبعه فرعون " (17) في الف الف حصان سوى الأثاث.وكان موسى في ستمائة الف.فلما عاينهم قال: " ان هؤلاء لشرذمة قليلون وانهم لنا لغائظون وانا لجميع حاذرون " (18) فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هو برهج دواب فرعون " فقالوا يا موسى أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا " (19) هذا البحر امامنا وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه " قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " (20) قال فأوحى الله إلى موسى " ان اضرب بعصاك البحر " وأوحى إلى البحر ان اسمع لموسى واطع إذا ضربك.قال فبات البحر له أفكل أي له رعدة له يدري من أي جوانبه يضربه.قال فقال يوشع لموسى (ع) بماذا أمرت قال: أمرت ان اضرب البحر.قال فاضربه.فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق، فكان اثنا عشر طريقا كالطود العظيم فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه فلما اخذوا في الطريق، قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا قالوا لموسى: أصحابنا لا نراهم.فقال لهم: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم.فقالوا لا نرضى حتى نراهم.فيقال ان موسى قال لله تعالى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة.فأوحى الله إليه انقل (21) بعصاك هكذا يمينا وشمالا.فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض.قال ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر.فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب (22) حصان.
فلما هجم على البحر هاب الحصان ان يتقحم على البحر، فتمثل له جبرائيل على فرس أنثى وديق (23) فلما رآها الحصان تقحم خلفها: وقيل لموسى ترك البحر رهوا أي طرقا على حاله.ودخل فرعون وقومه البحر فلما دخل آخر قوم آل فرعون وجاز آخر قوم موسى، انطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا.ويقال نادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذلة وخذلة نفسه: لا إله إلا الذي امنت به بنو إسرائيل وانا من المسلمين فان قيل: كيف لم يسو الله بين الخلق في هذه الآيات الباهرات التي أعطاها بني إسرائيل لتكون الحجة أظهر والشبهة أبعد؟قيل الآيات يظهرها الله على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك، وعلى حد لا ينتهي إلى الالجاء والاضطرار وخولف بين الآيات لهم على قدر حدة أذهان غيره، وكلالة أذهانهم يدل على ذلك ان بعد مشاهدة هذه الآيات قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة.ولما كانت الغرب من أحد الناس أذهانا وأجودهم أوهاما جاءت الآيات مشاكلة لطباعهم ومجانسة لدقة أذهانهم.وفي الجميع الحجة الباهرة، والآية القاهرة: وليس يمكن ان يقال إنه لو ظهر لهم مثل تلك الآيات، لامنوا لا محالة.على وجه لا يكونون ملجئين إليه لان ذلك لو كان معلوما، لاظهره الله تعالى.
فلما لم يظهرها الله علنا انه لم يكن ذلك معلوما وموسى " ع " لم يكن مجتلبا إلى المعارف، لمشاهدته هذه الآيات، لأنه كان يقدم له الايمان بالله ومعرفته.وقوله: " وأغرقنا آل فرعون " وان لم يكن في ظاهره انه أغرق فرعون فهو دال عليه.وكأنه قال: وأغرقنا آل فرعون معهم، - وأنتم تنظرون - فاختصر لدلالة الكلام عليه، لان الغرض مبني على اهلاك فرعون وقومه ونظيره قول القائل: دخل جيش الأمير الباذية.فان الظاهر من ذلك ان الأمير معهم.
1- سورة الشعراء: آية 64.
2- سورة الأنفال: آية 41.
3- سورة الإسراء آية 106.
4- سورة الدخان: آية 4 وسورة الرحمن آية 19.
5- في المخطوطة والمطبوعة " فيه ".
6- سورة طه: آية 77.
7- سورة الشعراء: آية 64.
8- سورة البقرة: آية 104.
9- سورة البقرة آية 280.
10- سورة الحديد: آية 13.
11- سورة القيامة: آية 23.
12- طريح بن إسماعيل الثقفي شاعر الوليد بن يزيد الأموي وخليله والبيت لم نعثر عليه وهو كما ترى.
13- لم نحده في ديوانه ولا في بعض مراجعنا الأخرى.
14- سورة الفرقان: آية 45.
15- سورة الشعراء: آية 3.
16- سورة الشعراء: آية 3.
17- الشعراء آية 55 و 56.
18- سورة الأعراف آية 128.
19- سورة الأعراف آية 128.
20- والمطبوعة " أن قل ".
21- طويل الذنب في المطبوعة والمخطوطة " دبوب ".
22- وديق: تشتهي الفحل.
23- سورة التوبة آية 78.