الآيات 6-10
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
قوله (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) خطاب من الله - عز وجل - للمؤمنين بأنه (إذا جاءكم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته (بنبأ) أي بخبر عظيم الشأن (فتبينوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه (أن تصيبوا قوما بجهالة) لأنه ربما كان كاذبا وخبره كذبا، فيعمل به فلا يؤمن بذلك وقال ابن عباس ومجاهد ويزيد بن رومان وقتادة وابن أبي ليلا: نزلت الآية في الوليد ابن عقبة بن أبي معيط، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله في صدقات بني المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به وإكراما له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: انهم منعوا صدقاتهم، وكان الامر بخلافه. وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لان المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لان العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره، فالأمان غير حاصل في العمل بخبره. وفى الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا، من حيث إنه أوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لأنه استدلال بدليل الخطاب ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء. ولو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدل بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولى من أن يستدل بتعليلها في دفع الأمان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على أن خبر العدل مثله، على أنه لا يجب العمل بخبر الواحد، وإن كان راويه عدلا. فان قيل: هذا يؤدي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة. قلنا: والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنه لا فائدة في تعليل الآية في خبر الفاسق الذي يشاركه العدل فيه، فإذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كل حال وبقي الأصل في أنه لا يجوز المل بخبر الواحد إلا بدليل. ومن قرأ (تبينوا) أراد تعرفوا صحة متضمن الخبر الذي يحتاج إلى العمل عليه، ولا تقدموا عليه من غير دليل، يقال: تبين الامر إذا ظهر، وتبين هو نفسه بمعنى واحد، ويقال أيضا: تبينته إذا عرفته. ومن قرأ (فتثبتوا) - بالتاء والثاء - أراد توقفوا فيه حتى يتبين لكم صحته. وقوله (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) معناه حتى عملتم بخبر الواحد وبان لكم كذب راويه أصبحتم نادمين على ما فعلتموه. ثم خاطبهم يعني المؤمنين فقال (واعلموا) معاشر المؤمنين (أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) ومعناه لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمور (لعنتم) أي أصابكم عنت ومكروه، يقال: أعنت الرجل إذا حملت عليه عامدا لما يكره، يقال: أعنته فعنت، وسمي موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا لان الطاعة يراعى فيها الرتبة، فلا يكون المطيع مطيعا لمن دونه، وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به، ألا ترى انه لا يقال في الله تعالى: إنه مطيع لنا إذا فعل ما أردناه. ويقال فينا إذا فعلنا ما أراده الله: انه مطيع. والنبي صلى الله عليه وآله فوقنا فلا يكون مطيعا لنا، فاطلاق ذلك مجاز. وقوله (ولكن الله حبب إليكم الايمان) بما وعد من استحقاق الثواب عليه (وزينه في قلوبكم) بنصب الأدلة على صحته (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) بما وصفه من العقاب عليه - وهو قول الحسن - وفي الآية دلالة على أن اضداد الايمان ثلاثة كفر وفسوق وعصيان. ثم قال (أولئك) يعني الذين وصفهم الله بالايمان، وزين الايمان في قلوبهم وانه كره إليهم الفسوق وغيره (هم الراشدون) أي المهتدون إلى طريق الحق الذين أصابوا الرشد. ثم قال (فصلا من الله ونعمة) أي فعل الله ذلك بهم فضلا منه على خلقه ونعمة مجددة، وهو نصب على المفعول له - في قول الزجاج - (والله عليهم) بالأشياء كلها (حكيم) في جميع أفعاله. ثم قال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) يقتل بعضهم بعضا (فأصلحوا بينهما) حتى يصطلحا، وقرأ يعقوب (بين أخوتكم) حمله على أنه جمع (أخ) أخوة لان الطائفة جمع. ومن قرأ على التثنية رده إلى لفظ الطائفتين، وقرأ زيد ابن ثابت وابن سيرين وعاصم الجحدري (بين أخويكم) والمعاني متقاربة. وقوله (وإن طائفتان من المؤمنين) لا يدل على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الايمان، ويطلق عليهما هذا الاسم، بل لا يمتنع ان يفسق أحد الطائفتين أو يفسقا جميعا، وجرى ذلك مجرى ان تقول: وإن طائفة من المؤمنين ارتدت عن الاسلام فاقتلوها. ثم قال (فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ) أي فان بغت إحدى الطائفتين على الأخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقابل الأخرى ظالمة لها متعدية عليها (فقاتلوا التي تبغي) لأنها هي الظالمة المتعدية دون الأخرى (حتى تفئ إلى أمر الله) أي حتى ترجع إلى أمر الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة. ثم قال (فان فاءت) أي رجعت وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) يعني بينها وبين الطائفة التي كانت على الايمان ولم تخرج عنه بالقول، فلا تميلوا على واحدة منهما (وأقسطوا) أي اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) يعني العادلين، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار. قال الله تعالى (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (1). وقيل: إن الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار وقع بينهما حرب وقتال - ذكره الطبري -. ثم اخبر تعالى (إنما المؤمنون) الذين يوحدون الله تعالى ويعملون بطاعاته ويقرون بنبوة نبيه ويعملون بما جاء به (أخوة) يلزمهم نصرة بعضهم بعضا (فأصلحوا بين أخويكم) يعني إذا رجعا جميعا إلى الحق وما أمر الله به (واتقوا الله) أي اجتنبوا معاصيه وافعلوا طاعته واتقوه في مخالفتكم (لعلكم ترحمون) معناه لكي ترحمون لان (لعل) بمعنى الشك والشك لا يجوز على الله تعالى، قال الزجاج: سموا المؤمنين إذا كانوا متفقين في دينهم بأنهم أخوة، لاتفاقهم في الدين ورجوعهم إلى أصل النسب لأنهم لآدم وحواء.
1- سورة 72 الجن آية 15.