الآيات 11-15
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾
يقول الله تعالى إن الذي جعل لكم الأرض مهدا لتهتدوا إلى مراشدكم في دينكم ودنياكم هو " الذي نزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا (بقدر) أي على قدر الحاجة لا زيادة عليها فيفسد ولا ناقصا عنها فيضر ولا ينفع، بل هو مطابق للحاجة وبحسبها وذلك يدل على أنه واقع من مختار يجعله على تلك الصفة قد قدره على ما تقتضيه الحكمة لعلمه بجميع ذلك. وقوله " فانشرنا به بلدة ميتا " أي أحييناها بالنبات بعد أن كانت ميتا بالقحل والجفاف تقول: أنشر الله الخلق فنشروا أي أحياهم فحييوا، ثم قال " وكذلك تخرجون " أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة فأحياها بالنبات مثل ذلك يخرجكم من القبور بعد موتكم، وإنما جمع بين أخراج الانبات وإخراج الأموات لان كل ذلك متعذر على كل قادر إلا القادر لنفسه الذي لا يعجزه شي ء ومن قدر على أحدهما قدر على الآخر بحكم العقل. وقوله " والذي خلق الأزواج كلها " معناه الذي خلق الاشكال من الحيوان والجماد من الحيوان الذكر والأنثى ومن غير الحيوان مما هو متقابل كالحلو والحامض والحلوا والمر والرطب واليابس وغير ذلك من الاشكال. وقال الحسن: الأزواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والشمس والقمر، والسماء والأرض، والجنة والنار وقوله " وجعل لكم من الفلك " يعني السفن " والانعام ما تركبون " يعني الإبل والبقر وما جرى مجراهما من الدواب والحمير التي تصلح المركوب. ثم بين انه خلق ذلك وغرضه (لتستووا على ظهوره) وإنما وحد الهاء في قوله " على ظهوره " لأنها راجعة إلى (ما) كما قال " مما في بطونه " (1) وفي موضع آخر (بطونها) ردها إلى الانعام، فذكر في (ما) وأنث في الانعام. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى الواحد، لان الواحد فيه بمعنى الجميع، فردت الظهور إلى المعنى. ولم يقل ظهره، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. ومعنى الآية ان غرضه تعالى ان تنتفعوا بالاستواء على ظهورها " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " فتشكروه على تلك النعم وتقولوا معترفين بنعم الله ومنزهين له عن صفات المخلوقين " سبحان الذي سخر لنا هذا " يعني هذه الانعام والفلك " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين، يقال: أنا لفلان مقرن أي مطيق أي انا قرن له، ويقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق وهو من المقارنة كأنه يطيق حمله في تصرفه. وقيل " مقرنين " أي مطيقين أي يقرن بعضا ببعض حتى يسيرها إلى حيث يشاء، وليقولوا أيضا " وإنا إلى ربنا لمنقلبون " أي راجعون إليه يوم القيامة. فان قيل: قوله " ولتستووا على ظهوره " يفيد ان غرضه بخلق الانعام والفلك ان يستووا على ظهورها، وإنه يريد ذلك منهم. والاستواء على الفلك والانعام مباح، ولا يجوز ان يريده الله تعالى ؟! قيل: يجوز أن يكون المراد بقوله " لتستووا على ظهوره " في المسير إلى ما أمر الله بالمسير إليه من الحج والجهاد وغير ذلك من العبادات، وذلك يحسن إرادته، وإنما لا يحسن إرادة ما هو مباح محض. وأيضا، فإنه تعالى قال " ثم تذكروا نعمة ربكم " أي تعترفون بنعم الله بالشكر عليها وتقولوا " سبحان الذي سخر لنا هذا " وذلك طاعة يجوز أن يكون مرادا تتعلق الإرادة به. وقوله " وجعلوا له من عباده جزءا " اخبار منه تعالى ان هؤلاء الكفار جعلوا لله من عباده جزءا. وقيل فيه وجهان:
أحدهما: انهم جعلوا لله جزءا من عبادته لأنهم أشركوا بينه وبين الأصنام.
وقال الحسن: زعموا ان الملائكة بنات الله وبعضه فالجزء الذي جعلوه له من عباده هو قولهم " الملائكة بنات الله " ثم قال تعالى مخبرا عن حال الكافر لنعم الله فقال " إن الانسان لكفور " لنعم الله جاحد لها " مبين " أي مظهر لكفره غير مستتر به.
1- سورة 16 النحل آية 66.