الآيات 1-5
هي مكية في قول مجاهد وقتادة وهي تسع وثمانون آية بلا خلاف في جملتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ﴾
خمس آيات في الكوفي وأربع في ما سواه، عد الكوفيون " حم " ولم بعده الباقون. قرأ نافع وحمزة والكسائي وخلف " ان كنتم " بكسر الهمزة جعلوه شرطا مستأنفا واستغنى عما تقدم، كقولك: أنت عالم ان فعلت، فكأنه قال: ان كنتم قوما مسرفين نضرب. الباقون بفتحها جعلوه فعلا ماضيا أي إذا كنتم، كما قال " أن جاءه الأعمى " (1) والمعنى إذ جاءه الأعمى، فموضع (ان) نصب عند البصريين، وجر عند الكسائي، لان التقدير أفنضرب الذكر صفحا لان كنتم، وبأن كنتم قوما مسرفين. والمسرف الذي ينفق ماله في معصية الله، ولا اسراف في الطاعة. قد بينا معنى " حم " في ما مضى، واختلاف المفسرين فيه، فلا معنى لا عادته وقوله " والكتاب " خفض بالقسم. وقيل: تقديره ورب الكتاب، والمراد بالكتاب القرآن، والمبين صفة له وإنما وصف بذلك لأنه أبان عن طريق الهدى من الضلالة، وكل ما تحتاج إليه الأمة في الديانة. والبيان هو الدليل الدال على صحة الشئ وفساده. وقيل: هو ما يظهر به المعنى للنفس عند الادراك بالبصر والسمع، وهو على خمسة أوجه: باللفظ، والحظ، والعقد بالأصابع، والإشارة إليه، والهيئة الظاهرة للجاسة، كالاعراض عن الشئ، والاقبال عليه، والتقطيب وضده وغير ذلك. واما ما يوجد في النفس من العلم، فلا يسمى بيانا على الحقيقة وكل ما هو بمنزلة الناطق بالمعنى المفهوم فهو مبين. وقوله " انا جعلناه قرآنا عربيا " اخبار منه تعالى انه جعل القرآن الذي ذكره عربيا بأن يفعله على طريقة العرب في مذاهبها في الحروف والمفهوم. ومع ذلك فإنه لا يتمكن أحد منهم من انشاء مثله والاتيان بما يقاربه في علو طبقته في البلاغة والفصاحة، اما لعدم علمهم بذلك أو صرفهم على حسب اختلاف الناس فيه. وهذا يدل على جلالة موقع التسمية في التمكن به والتعذر مع فقده. وفيه دلالة على حدوثه لان المجعول هو المحدث. ولان ما يكون عربيا لا يكون قديما لحدوث العربية. فان قيل: معنى جعلناه سميناه لان الجعل قد يكون بمعنى التسمية. قلنا: لا يجوز ذلك - ههنا - لأنه لو كان كذلك لكان الواحد منا إذا سماه عربيا فقد جعله عربيا، وكان يجب لو كان القرآن على ما هو عليه وسماه الله أعجميا أن يكون أعجميا أو كان يكون بلغة العجم وسماه عربيا أن يكون عربيا، وكل ذلك فاسد. وقوله " لعلكم تعقلون " معناه جعلناه على هذه الصفة لكي تعقلوا وتفكروا في ذلك فتعلموا صدق من ظهر على يده. وقوله " وانه " يعني القرآن " في أم الكتاب لدنيا " يعنى اللوح المحفوظ الذي وكتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما فيه من مصلحة ملائكته بالنظر فيه وللخلق فيه من اللطف بالاخبار عنه " وأم الكتاب " أصله لان أصل كل شئ أمه. وقوله " لعلي حكيم " معناه لعال في البلاغة مظهر ما بالعباد إليه الحاجة مما لا شئ منه إلا يحسن طريقه ولا شئ أحسن منه. والقرآن بهذه الصفة علمه من علمه وجهله من جهله لتفريطه فيه و (حكيم) معناه مظهر المعنى الذي يعمل عليه المؤدي إلى العلم والصواب. والقرآن من هذا الوجه مظهر للحكمة البالغة لمن تدبره وأدركه. ثم قال لمن جحده ولم يعتبر به على وجه الانكار عليهم " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " معناه أنعرض عنكم جانبا باعراضكم عن القرآن والتذكر له والتفكر فيه " أن كنتم قوما مسرفين " على نفوسكم بترككم النظر فيه والاعتبار بحججه. ومن كسر الهمزة جعله مستأنفا شرطا. ومن فتحها جعله فعلا ماضيا أي إذ كنتم كما قال " أن جاءه الأعمى " (2) بمعنى إذ جاءه الأعمى، فموضع (أن) نصب عند البصريين وجر عند الكسائي، لان التقدير الذكر صفحا، لان كنتم وبأن كنتم. قال الشاعر:
أتجزع ان بان الخليط المودع * وجعل الصفا من عزة المتقطع (3)
والمسرف الذي ينفق ماله في معصية الله، لان من انفقه في طاعة أو مباح لم يكن مسرفا وقال علي عليه السلام (لا إسراف في المأكول والمشروب) و (صفحا) نصب على المصدر، لان قوله " أفنضرب عنكم الذكر " يدل على أن اصفح عنكم صفحا وكأن قولهم: صفحت عنه أي أعرضت ووليته صفحة العنق. والمعنى أفنضرب ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم أن كنتم قوما مسرفين، كما قال " أيحسب الانسان أن يترك سدى " (4) ومن كسر فعلى الجزاء واستغنى عن جوابه بما تقدم كقولهم: أنت ظالم ان فعلت كأنه قال إن كنتم مسرفين نضرب، وقال المبرد: المعنى متى فعلتم هذا طلبتم أن نضرب الذكر عنكم صفحا. قال الفراء: تقول العرب: أضربت عنك وضربت عنك بمعنى تركتك وأعرضت عنك. وقال الزجاج: المعنى أفنضرب عنكم الذكر أي نهلكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لان أسرفتم وأصل ضربت عنه الذكران الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفها عن جهة ضربها بعصا أو سوط لتعدل به إلى جهة أخرى يريدها ثم يوضع الضرب موضع الصرف والعدل. وصفحا مصدر أقيم قيام الفاعل، ونصب على الحال. والمعنى أفنضرب عنكم تذكيرنا إياكم الواجب صافحين أو معرضين، يقال صفح فلان بوجهه عني أي اعرض قال كثير:
صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت
والصفوح في صفات الله معناه العفو يقال: صفح عن ذنبه إذا عفا. وقال بعضهم: المعنى أفظننتم أن نضرب عنكم هذا الذكر الذي بينا لكم فيه امر دينكم صفحا، فلا يلزمكم العمل بما فيه، ولا نؤاخذكم لمخالفتكم إياه إن كنتم قوما مسرفين على أنفسكم، وجرى ذلك مجرى قول أحدنا لصاحبه وقد أنكر فعله أأتركك تفعل ما تشاء أغفل عنك إذا أهملت نفسك، ففي ذلك إنكار ووعيد شديد.
1- سورة 8 (عبس آية 2.
2- سورة 80 عبس آية 2.
3- مر في 1 / 349 و 7 / 9.
4- سورة 75 القيامة آية 36.