الآيات 31-35
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾
خمس آيات كوفي وأربع في ما عداه عد الكوفيون (كالاعلام) ولم يعد، الباقون. قرأ أبو عمرو، ونافع (الجواري في البحر) بياء في الوصل، ووقف / ابن كثير بياء أيضا. الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع وأبو جعفر وابن عامر (ويعلم الذين) رفعا على الاستئناف، لان الشرط والجزاء قد تم، فجاز الابتداء بما بعده. الباقون بالنصب. فمن نصبه فعلى الصرف، كما قال النابغة:
فان يهلك أبو قابوس يهلك * ربيع الناس والبلد الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام (1)
قال الكوفيون: هو مصروف من مجزوم إلى منصوب، وقال البصريون: هو نصب بإضمار (أن) وتقديره ان يعلم، كما قال الشاعر:
ولبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف
وتقديره وأن تقر عيني، قال أبو علي: ومن نصب (ويعلم) فلان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب، تقول في الشرط إن تأتني وتعطيني أكرمك فينصب وتعطيني، وتقديره إن يكون منك اتيان وإعطاء أكرمك، والنصب بعد الشرط إذا عطفته بالفاء أمثل من النصب بالفاء بعد جزاء الشرط فأما العطف على الشرط نحو إن تأتني وتكرمني أكرمك، فالذي يختار سيبويه في العطف على الشرط نحو إن تأتني وتكرمني الجزم، فيختار (ويعلم الذين) إذا لم يقطعه عن الأول فيرفعه، وإن عطف على جزاء الشرط، فالنصب أمثل. ومن أثبت الياء في الحالين في قوله (الجواري) فلا أنها الأصل، لكن خالف المصحف، ومن أثبتها وصلا دون الوقف استعمل الأصل وتبع المصحف، ومن حذفها في الحالين يتبع المصحف، واجتزأ بالكسوة الدالة على الياء. وواحد الجواري جارية، وهي السفينة، وحكي عن ابن مسعود انه قرأ بضم الراء كأنه قلب، كما قالوا (شاك) في (شائك) فأراد الجوائر فقلب. قوله (وما أنتم بمعجزين في الأرض) خطاب من الله تعالى للكفار بأنكم لستم تفوتون الله بالهرب منه في الأرض ولا في السماء، فإنه يقدر عليكم في جميع الأماكن ولا يمكن النجاة من عذابه إلا بطاعته، فواجب عليكم طاعته، ففي ذلك استدعاء إلى عبادة الله وترغيب في كل ما أمر به وتحذير عما نهى عنه. ووجه الحجة بذلك على العبد انه إذا كان لا يعجز الله، ولا يجد دافعا عن عقابه خف عليه عمل كل شئ في جنب ما توعد به. وقوله (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) اي ليس لكم من يدفع عنكم عقاب الله إذا أراد فعله بكم ولا ينصركم عليه، فيجب أن ترجعوا إلى طاعة من هذه صفته. وقوله (ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام) معناه من آياته الدالة على انه تعالى مختص بصفات لا يشركه فيها أحد، السفن الجارية في البحر مثل الجبال، لأنه تعالى يسيرها بالريح لا يقدر على تسييرها غيره، ووجه الدلالة في السفن الجارية هو ان الله خلق الماء العظيم وعدل الريح بما يمكن أن يجري فيه على حسب المراد لأنه إذا هبت الريح في جهة وسارت بها السفينة فيها، فلو اجتمعت الخلائق على صرفها إلى جهة أخرى لما قدروا، وكذلك لو سكنت الريح لوقفت. وما قدر أحد على تحريكها، ولا إجرائها غيره تعالى. ثم بين ذلك بأن قال (إن يشأ يسكن الريح) وتقديره إن يشأ يسكن الريح أسكنها أو إن يشأ ان يسكنها سكنت، وليس المعنى إن وقعت منه مشيئة أسكن لا محالة، لأنه قد وقعت منه مشيئة لأشياء كثيرة ولم تسكن الريح. والجواري السفن - في قول مجاهد والسدي - والاعلام الجبال - في قولهما - وقوله (فيظللن رواكد على ظهره) قال ابن عباس: معناه تظل السفن واقفة على ظهر الماء، قال الشاعر:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
وقوله (إن في ذلك) يعني في تسخير البحر وجريان السفن فيها لآيات أي حججا واضحات (لكل صبار) على أمر الله (شكور) على نعمه، وإنما أضاف الآيات إلى كل صبار وإن كانت دلالات لغيرهم أيضا من حيث هم الذين انتفعوا بها دون غيرهم، ممن لم ينظر فيها. وقوله (أو يوبقهن بها كسبوا) معناه يهلكهن بالغرق - في قول ابن عباس والسدي ومجاهد - (بما كسبوا) أي جزاء على ما فعلوا من المعاصي (ويعفو عن كثير) اخبار منه تعالى انه يعفو عن معاصيهم لا يعاجلهم الله بعقوبتها. وقوله (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص) اخبار منه تعالى أن الذين يجادلون في إبطال آيات الله تعالى ويدفعونها سيعلمون انه ليس لهم محيص أي ملجأ يلجئون إليه - في قول السدي.
1- تفسير القرطبي 16 / 34 والشوكاني 4 / 525 والطبري 25 / 20.