الآيات 26-30
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر ونافع " بما كسبت " بلا فاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. الباقون بالفاء، وكذلك في مصاحفهم، فعلى هذا يكون جزاء وعلى الأول يكون المعنى الذي أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم. لما اخبر الله تعالى انه يقبل التوبة عن عباده وانه يعلم ما يفعلونه من طاعة أو معصية وانه يجازيهم بحسبها، ذكر انه " يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يجيبهم بمعنى و (الذين) في موضع نصب، وأجاب واستجاب بمعنى واحد، قال الشاعر:
وداع دعايا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (1)
وقيل: الاستجابة موافقة عمل العامل ما يدعو إليه، لأجل دعائه إليه، فلما كان المؤمن يوافق بعمله ما يدعو النبي صلى الله عليه وآله من اجل دعائه كان مستجيبا له، وكذلك من وافق بعمله داعي عقابه كان مستجيبا للداعي بالفعل. وعن معاذ بن جبل: إن الله تعالى يجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دعاء بعضهم لبعض. وقيل: معناه ويجيب المؤمنون ربهم في ما دعاهم إليه، فبكون (الذين) في موضع رفع، ويكون قوله " ويزيدهم " راجعا إلى الله أي يزيدهم الله من فضله. وقيل: معناه ويستجيب دعاع المؤمنين، ولا يستجيب دعاء الكافرين، لأنه ثواب ولا ثواب للكافرين. وقيل: بل يجوز أن يكون ذلك إذا كان فيه لطف للمكلفين. وقوله " ويزيدهم من فضله " معناه ويزيدهم زيادة من فضله على ما يستحقونه من الثواب. وقال الرماني: الزيادة بالوعد تصير اجرا على العمل إذا كان ممن يحسن الوعد بها من طريق الوعد، كما لو كان إنسان يكتب مئة ورقة بدينار، ورغبه ملك في نسخ مئة ورقة بعشرة دنانير، فإنه يكون الأجرة حينئذ عشرة دنانير وإذا بلغ غاية الاجر في مقدار لا يصلح عليه أكثر من ذلك، فإنما تستحق الزيادة بالوعد. وقوله " والكافرون لهم عذاب شديد " اخبار عما يستحقه الكافر على كفره من العقاب المؤلم الشديد. وقوله " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " إخبار منه تعالى بأنه لو وسع رزقه على عباده وسوى بينهم لبطروا النعمة وتنافسوا وتغالبوا، وكان ذلك يؤدي إلى وقوع الفساد بينهم والقتل وتغلب بعضهم على بعض واستعانة بعضهم ببعض ببذل الأموال، ولكن دبرهم على ما علم من مصلحتهم في غناء قوم وفقر آخرين، وإحواج بعضهم إلى بعض وتسخير بعضهم لبعض، فلذلك قال " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " مما يعلمه مصلحة لهم " إنه بعباده خبير بصير " يعني عالم بأحوالهم بصير بما يصلحهم مما يفسدهم. ثم قال " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " أي ينزله عليهم من بعد أياسهم من نزوله، ووجه إنزاله بعد القنوط انه أدعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه والمعرفة بمواقع إحسانه، وكذلك الشدائد التي تمر بالانسان، ويأتي الفرج بعدها، تعلق الامل بمن يأتي به وتكسب المعرفة بحسن تدبيره في ما يدعو إليه من العمل بأمره والانتهاء إلى نهيه. ونشر الرحمة عمومها لجميع خلقه، فهكذا نشر رحمة الله مجددة حالا بعد حال. ثم يضاعفها لمن يشاء، وكل ذلك على مقتضى الحكمة وحسن التدبير الذي ليس شئ لحسن منه " وهو الولي الحميد " معناه هو الأولى بكم وبتدبيركم المحمود على جميع افعاله لكونها منافعا وإحسانا. ثم قال " ومن آياته " أي من حججه الدالة على توحيده وصفاته التي باين بها خلقه " خلق السماوات والأرض " لأنه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب والأجناس التي لا يقدر عليها قادر بقدرة " وما بث فيهما من دابة " أي من سائر أجناس الحيوان " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " أي على جمعهم يوم القيامة وحشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر، لا يتعذر عليه ذلك. ثم قال " وما أصابكم من مصيبة " معاشر الخلق (فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال الحسن: ذلك خاص في الحدود التي تستحق على وجه العقوبة. وقال قتادة: هو عام. وقال قوم: ذلك خاص وإن كان مخرجه مخرج العموم لما يلحق من المصائب على الأطفال والمجانين ومن لا ذنب له من المؤمنين. وقال قوم: هو عام بمعنى ان ما يصيب المؤمنين والأطفال إنما هو من شدة محنة تلحقهم، وعقوبة للعاصين كما يهلك الأطفال والبهائم مع الكفار بعذاب الاستئصال. ولأنه قد يكون فيه استصلاح اقتضاه وقوع تلك الاجرام. وقيل قوله (ولو بسط الله الرزق لعباده) بحسب ما يطلبونه ويقترحونه (لبغوا في الأرض) فإنه لم يمنعهم ذلك لعجز، ولا بخل. وقوله (إذا يشاء) يدل على حدوث المشيئة، لأنه لا يجوز أن يكون إذا قدر على شئ فعله ولا إذا علم شيئا فعله. ويجوز إن شاء ان يفعل شيئا فعله. وقوله (أصابكم) قال أبو علي النحوي: يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون صلة ل? (ما)
الثاني: أن يكون شرطا في موضع جزم، فمن قدره شرطا لم يجز سقوط الفاء - على قول سيبويه - وأجاز ذلك أبو الحسن والكوفيون. وإن كان صلة فالاثبات والحذف جائزان على معنيين مختلفين، فإذا ثبت الفاء كان ذلك دليلا على أن الأمر الثاني وجب بالأول كقوله (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم) (2) فثبوت الفاء يدل على وجوب الانفاق وإذا حذف احتمل الامرين.
1- مر تخريجه في 2 / 131 و 3 / 88 و 6 / 232.
2- سورة 2 البقرة آية 274.