الآيات 11-15
قوله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
لما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم الذي وصفته بأنه الذي يحيي ويميت هو ربي واليه ارجع في أموري كلها، زاد في صفاته تعالى (فاطر السماوات والأرض) أي هو فاطر السماوات، ومعنى فاطر خالق السماوات ابتداء. وحكي عن ابن عباس أنه قال لم أكن أعرف معنى (فاطر) حتى تحاكم إلى أعرابيان في بئر فقال أحدهما انا فطرته بمعنى أنا ابتدأته، والفطر أيضا الشق. ومنه قوله تعالى (تكاد السماوات يتفطرن منه) وقوله (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) يعني اشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن إليها ويألفها. ومن الانعام أزواجا من الضان اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين، ذكورا وإناثا ووجه الاعتبار بجعل الأزواج ما في ذلك من إنشاء الشئ مالا بعد حال على وجه التصريف الذي يقتضي الاختيار، وجعل الخير له أسباب تطلب كما للشر أسباب تجتنب، فخعل لكل حيوان زوجا من شكله على ما تقتضيه الحكمة فيه. وقوله (يذرؤكم فيه) أي يخلقكم ويكثركم فيه يعني في التزويج وفي ما حكم فيه. وقال الزجاج والفراء: معناه يذرؤكم به أي بما جعل لكم أزواجا وانشد الأزهري قول الشاعر يصف امرأة:
وارغب فيها عن لقيط ورهطه * ولكنني عن سنبس لست ارغب (1)
أي ارغب بها عن لقيط. فالذرء إظهار الشئ بايجاده يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا واصله الظهور، ومنه ملح ذرآني لظهور بياضه. والذرية لظهورها ممن هي منه. وقوله (ليس كمثله شئ) قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: إن الكاف زائدة وتقديره ليس مثل الله شئ من الموجودات ولا المعدومات كما قال أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل * يغشاهم سيل منهر (2)
وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم * ما إن كمثلهم في الناس من أحد (3)
وقال الراجز: وصاليات ككما توثقين (4)
الثاني: قال الرماني: إنه بلغ في نفي الشبيه إذا نفى مثله، لأنه يوجب نفي الشبهة على التحقيق والتقدير، وذلك أنه لو قدر له مثل لم يكن له مثل صفاته ولبطل أن يكون له مثل ولنفرده بتلك الصفات، وبطل أن يكون مثلا له فيجب أن يكون من له مثل هذه الصفات على الحقيقة لامثل له أصلا إذ لو كان له مثل لم يكن هو بصفاته وكان ذلك الشئ الآخر هو الذي له تلك الصفات، لأنها لا تصح إلا لواحد في الحقيقة وهذا لا يجوز أن يشبه بشبه حقيقة، ولا بلاغة فوجب التبعيد من الشبه لبطلان شبه الحقيقة.
الثالث: وجه كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي (رحمة الله عليه) جارانا فيه فاتفق لي بالخاطر وجه قلته فاستحسنه واستجاده، وهو ان لا تكون الكاف زائدة ويكون المعنى انه نفى أن يكون لمثله مثل وإذا ثبت انه لا مثل لمثله فلا مثل له أيضا. لأنه لو كان له مثل لكان له أمثال، لان الموجودات على ضربين:
أحدهما: لا مثل له، كالقدرة فلا أمثال لها أيضا
الثاني: له مثل كالسواد والبياض وأكثر الأجناس فله أمثال أيضا وليس في الموجودات ماله مثل واحد فحسب، فعلم بذلك ان المراد انه لا مثل له أصلا من حيث لا مثل لمثله. وقوله (وهو السميع البصير) معناه انه على صفة يجب ان يسمع المسموعات إذا وجدت ويبصر المبصرات إذا وجدت وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به، وفائدة ذكره - ههنا - هو انه لما نفى أن يكون له شبه على وجه الحقيقة والمجاز، وعلى وجه من الوجوه بين انه مع ذلك سميع بصير، لئلا يتوهم نفي هذه الصفة له على الحقيقة فقط، فإنه لا مدحة في كونه مما لا مثل له على الانفراد، لان القدرة لا مثل لها، وإنما المدحة في أنه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا، وذلك يدل على التفرد الحقيقي. وقوله (له مقاليد السماوات والأرض) معناه له مفاتيح الرزق منها بانزال المطر من السماء واستقامة الهواء فيها وابنات الثمار والأقوات من الأرض. ثم قال (يبسط الرزق لمن يشاء) أي يوسعه له (ويقدر) أي يضيق لمن يشاء ذلك على ما يعلمه من مصالحهم (إنه بكل شئ عليم) مما يصلحهم أو يفسدهم. ثم خاطب تعالى خلقه فقال (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) معنى شرع بين وأظهر، وهو (الذي أوحينا إليك) يا محمد صلى الله عليه وآله وهو (ما وصينا به إبراهيم وموصى وعيسى) وسائر النبيين، وهو أنا أمرناهم بعبادة الله والشكر له على نعمه وطاعته في كل واجب وندب مع اجتناب كل قبيح، وفعل ما أمر به مما أدى إلى التمسك بهذه الأصول مما تختلف به شرائع الأنبياء. ثم بين ذلك فقال (ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وموضع (ان أقيموا) يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدها: أن يكون نصبا بدلا من (ما) في (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)
الثاني: أن يكون جرا بدلا من الهاء في (به).
الثالث: أن يكون رفعا على الاستئناف، وتقديره هو ان أقيموا الدين. وقوله (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) معناه كبر عليهم واستعظموا كونك داعيا إلى الله، ودعاؤك يا محمد وأنث مثلهم بشر ومن قبيلتهم إنك نبي، وليس لهم ذلك، لان الله يجتبي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة وتحمله لها، فاجتباك الله تعالى كما اجتبى موسى ومن قبلك من الأنبياء، ومعنى (يجتبى) يختار. وقوله (ويهدي إليه من ينيب) معناه ويهديه إلى طريق الثواب ويهدي المؤمنين الذين أنابوا إليه وأطاعوه. وقيل: يهديه إلى طريق الجنة والصواب بأن يلطف له في ذلك إذا علم أن له لطفا، ثم قال (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) ومعناه إن هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن اتاهم طريق العلم بصحة نبوتك، فعدلوا عن النظر فيه بغيا بينهم للحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا واتباع الهوى. وقيل: إن هؤلاء لم يختلفوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، لكن فعلوا ذلك للبغي. ثم قال (ولولا كلمة سبقت من ربك) بأن اخبر بأنه يبعثهم (إلى أجل مسمى) ذكر انه يبقيهم إليه لم يجز مخالفته، لأنه يصير كذبا (لقضي بينهم) أي لفصل بينهم الحكم وانزل عليهم ما يستحقونه من العذاب عاجلا. ثم قال (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) قال السدي: يعني اليهود والنصارى من بعد الذين أورثوا الكتاب الذي هو القرآن (لفي شك منه مريب) أي من الدين. وقال غيره: الذين أورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى في شك من الدين مريب، وهم الذين كفروا بالقرآن وشكوا في صحته وانه من عند الله من سائر الكفار والمنافقين. وقوله (فلذلك فادع واستقم) معناه فإلى ذلك فادع، كما قال (بأن ربك أوحى لها) (5) أي أوحى إليها يقال دعوته لذا وبذا وإلى ذا. وقيل: معنا فلذلك الدين فادع. وقيل: معناه فلذلك القرآن فادع. والأول أحسن وأوضح وقوله (ولا تتبع أهواءهم) نهي للنبي صلى الله عليه وآله عن اتباع ما هو به المشركون والمراد به أمته. وقيل: ثلاث من كن فيه نجا: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والخشية في السر والعلانية. وثلاث من كن فيه هلك: شح مطاع، وهوى متبع، وعجب المرء بنفسه. وقوله (وقل آمنت بما انزل الله من كتاب) أي قل لهم صدقت بما انزل الله من القرآن وبكل كتاب أنزله الله على الأنبياء قبلي (وأمرت لأعدل بينكم). وقيل في معناه قولان:
أحدهما: أمرت بالعدل
الثاني: أمرت كي اعدل. وقل لهم أيضا (الله ربنا وربكم) أي مدبرنا ومدبركم ومصرفنا ومصرفكم (لنا اعمالنا ولكم اعمالكم) ومعناه أن جزاء أعمالنا لنا من ثواب أو عقاب وجزاء اعمالكم لكم من ثواب أو عقاب، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كما قال (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (6) (لا حجة بيننا وبينكم) أي لا خصومة بيننا - في قول مجاهد وابن زيد - أي قد ظهر الحق فسقط الجدال والخصومة. وقيل: معناه إن الحجة لنا عليكم لظهورها، وليست بيننا بالاشتباه والالتباس. وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة، لا على طريق الشبهة، وليس ذلك على جهة تحريم إقامة الحجة، لأنه لم يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها الحق من الباطل فإذا صار الانسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين أهل الحق. ثم قال (الله يجمع بيننا يوم القيامة واليه المصير) أي المرجع حيث لا يملك أحد الحكم فيه ولا الأمر والنهي غيره، فيحكم بيننا بالحق. وفي ذلك غاية التهديد. وقيل: إن ذلك كان قبل الامر بالقتال والجهاد.
1- مر في 6 / 278.
2- تفسير الطبري 25 / 8 والقرطبي 16 / 8 والشوكاني 4 / 514.
3- تفسير الطبري 25 / 8 والقرطبي 16 / 8 والشوكاني 4 / 514.
4- تفسير الطبري 25 / 8 والقرطبي 16 / 8 والشوكاني 4 / 514.
5- سورة 99 الزلزال آية 5.
6- سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 آية فاطر آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7.