الآيات 41-45

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾

القراءة:

قرأ " أعجمي وعربي " على الخبر حفص والحلواني عن هشام وابن مجاهد عن قنبل في غير رواية ابن الحمامي عن بكار. الباقون بهمزتين. وحففهما أهل الكوفة إلا حفصا وروح. والباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية. وفصل بينهما بألف أهل المدينة إلا ورشا وأبو عمر. ومن قرأ بلفظ الاستفهام أراد الانكار، فادخل حرف الاستفهام على الف " أعجمي " وهي الف قطع. ومن حققها، فلأنها الأصل. ومن خففهما أو فصل بينهما فلكراهة اجتماع الهمزتين. ومن قرأ على الخبر، فالمعنى هلا كان النبي عربيا والقرآن أعجميا. والنبي أعجميا والقرآن عربيا، فكان يكون ابهر في باب الاعجاز. يقول الله تعالى مخبرا " إن الذين كفروا بالذكر " الذي هو القرآن وجحدوه وسمي القرآن ذكرا، لأنه تذكر به وجوه الدلائل المؤدية إلى الحق، والمعاني التي يعمل عليها فيه. واصل الذكر ضد السهو وهو حضور المعنى للنفس " لما جاءهم " أي حين جاءهم، وخبر (ان) محذوف، وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر هلكوا به وشقوا به ونحوه. وقيل تقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل خبره " أولئك ينادون من مكان بعيد " وقيل قوله " وانه لكتاب عزيز " في موضع الخبر، وتقديره الكتاب الذي جاءهم عزيز، وقوله " وإنه " الهاء كناية عن القرآن، والمعنى وإن القرآن لكتاب عزيز بأنه لا يقدر أحد من العباد على أن يأتي بمثله، ولا يقاومه في حججه على كل مخالف فيه. وقيل: معناه إنه عزيز باعزاز الله - عز وجل - إياه إذ حفظه من التغيير والتبديل. وقيل: هو عزيز حيث جعله على أتم صفة الاحكام. وقيل: معناه انه منيع من الباطل بما فيه من حسن البيان ووضوح البرهان، ولان احكامه حق يقضي بصحتها العقل. وقوله " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " قيل في معناه أقوال خمسة:

أحدها: انه لا تعلق به الشبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة وهو الحق المخلص والذي لا يليق به الدنس

الثاني: قال قتادة والسدي: معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقا ولا يزيد فيه باطلا.

الثالث: ان معناه لا يأتي بشئ يوجب بطلانه مما وجد قبله ولا معه ولا مما يوجد بعده. وقال الضحاك: لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله ولا من خلفه أي ولا حديث من بعده يكذبه.

الرابع: قال ابن عباس: معناه لا يأتيه الباطل من أول تنزيله ولا من آخره.

والخامس: ان معناه لا يأتيه الباطل في اخباره عما تقدم ولا من خلفه ولا عما تأخر. ثم وصف تعالى القرآن بأنه " تنزيل من حكيم حميد " فالحكيم هو الذي افعاله كلها حكمة فيكون من صفات الفعل، ويكون بمعنى العالم بجميع الأشياء واحكامها فيكون من صفات الذات. و (الحميد) هو المحمود الذي يستحق الحمد والشكر على جميع افعاله لان افعاله كلها نعمة يجب بها الشكر. وقوله " ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك " قيل في معناه أقوال:

أحدها: من الدعاء إلى الحق في عبادة الله تعالى ولزوم طاعته

الثاني: ما حكاه تعالى بعده من " ان ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم " فيكون على جهة الوعد والوعيد.

والثالث: قال قتادة والسدي: وهو تعزية للنبي صلى الله عليه وآله بأن ما يقول لك المشركون مثل ما قال من قبلهم من الكفار لأنبيائهم من التكذيب والجحد لنبوتهم. وقوله " إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم " أي وقد يفعل العقاب بالعصاة من الكفار قطعا ومن الفساق على تجويز عقابهم، فلا ينبغي ان يغتروا ويجب عليهم أن يتحرزوا بترك المعاصي وفعل الطاعات. ثم قال تعالى " ولو جعلناه " يعني الذكر الذي قدم ذكره " قرآنا أعجميا " أي مجموعا بلغة العجم، يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح وإن كان عربي النسب، وعجمي إذا كان من ولد العجم وإن كان فصيحا بالعربية. قال أبو علي: يجوز ان يقال: رجل أعجمي يراد به أعجم بغير ياء كما يقال: أحمري واحمر، ودواري ودوار " قالوا لولا فصلت آياته " ومعناه هلا فصلت آياته وميزت. وقالوا " أعجمي وعربي " أي، قالوا القرآن أعجمي ومحمد عربي - ذكره سعيد بن جبير - وقال السدي: قالوا أعجمي وقوم عرب. ومن قرأ على الخبر حمله على أنهم يقولون ذلك مخبرين. ومن قرأ على الاستفهام أراد انهم يقولون ذلك على وجه الانكار، وإنما قوبل الأعجمي في الآية بالعربي، وخلاف العربي العجمي لان الأعجمي في أنه لا يبين مثل العجمي عندهم من حيث اجتمعا في أنهما لا يبينان، قوبل به العربي في قوله " أعجمي وعربي " وحكى ان الحسن قرأ " أعجمي " بفتح العين قابل بينه وبين قوله " وعربي " فقال الله تعالى لنبيه " قل " لهم يا محمد " هو " يعني القرآن " للذين آمنوا " بالله وصدقوا بتوحيده وأقروا بنبوة نبيه " هدى " يهتدون به " وشفاء " من سقم الجهل " والذين لا يؤمنون " بالله ولا يصدقون بتوحيده " في آذانهم وقر " يعني ثقل إذ هم بمنزلة ذلك من حيث لم ينتفعوا بالقرآن فكأنهم صم أو في آذانهم ثقل " وهو عليهم عمى " حيث ضلوا عنه وجاروا عن تدبيره فكأنه عمى لهم. وقوله " أولئك ينادون من مكان بعيد " على وجه المثل، فكأنهم الذين ينادون من مكان بعيد ويسمعوا الصوت ولا يفهموا المعنى من حيث لم ينتفعوا به. وقال مجاهد: لبعده عن قلوبهم. وقال الضحاك: ينادون الرجل في الآخرة كبأشنع أسمائه، وقيل: معناه أولئك لا يفهمون ذلك كما يقال لمن لا يفهم شيئا: كأنك تنادى من مكان بعيد. ثم اقسم تعالى بأنه آتى " موسى الكتاب " يعني التوراة " فاختلف فيه " لأنه آمن به قوم وجحدوه آخرون، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله عن جحود قومه وإنكارهم نبوته. ثم قال " ولولا كلمة سبقت من ربك " في أنه لا يعاجلهم بالعقوبة وانه يؤخرهم إلى يوم القيامة " لقضي بينهم " أي لفصل بينهم بما يجب من الحكم. ثم اخبر عنهم فقال: وإنهم لفي شك منه " يعني مما ذكرناه " مريب " يعني أقبح الشك لان الريب أفظع الشك. وفى ذلك دلالة على جواز الخطأ على أصحاب المعارف لأنه تعالى بين انهم في شك وانهم يؤاخذون مع ذلك.