الآيات 67-70
قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾
يقول الله تعالى مخبرا عن حال الكفار أنهم ما عظموه حق عظمته إذ دعوك إلى عبادة غيره. وقال الحسن: معناه إذ عبد وا الأوثان من دونه. والأول أقوى - وهو قول السدي - قال محمد بن كعب القرطي " ما قدروا الله حق قدره " معناه ما علموا كيف حق الله. قال المبرد إشتقاقه من قولك: فلان عظيم القدر يريد بذلك جلالته. والقدر اختصاص الشئ بعظم حجم أو صغر أو مساواة. وقوله " والأرض جميعا قبضته. قال الفراء: كان بجوز في (قبضته) النصب. وقال الزجاج لا يجوز ان يقال: زيد دارك أي في دارك على حذف (في) كقولهم شهر رمضان انسلاخ شعبان أي في انسلاخه. قال المبرد: الناصب ل? (جميعا) محذوفة تقديره والأرض إذا كانت جميعا قبضته، وخبر الابتداء (قبضته) كأنه قال: والأرض قبضته إذا كانت جميعا. ومثله: هذا بسر الطيب منه تمرا أي إذا كان. ومذهب سيبويه أي ثبتت جميعا في قبضته كقولك هنيئا مريئا أي ثبت ذلك، لأنه دعاء في موضع المصدر، كما قلت سقيا ومثل الآية قول الشاعر:
إذا المرؤ أعيته المروءة ناشئا * فمطلبها كهلا عليه شديد
أي إذا كان كهلا. وقال الزجاج: هو نصب على الحال. والمعنى " والأرض " في حال اجتماعها (قبضته يوم القيامة. والسماوات مطويات بيمينه) على الابتداء والخبر. ومعنى الآية أن الأرض بأجمعها في مقدوره كما يقبض عليه القابض، فيكون في قبضته وكذلك قوله (والسماوات مطويات بيمينه) معناه أي في مقدوره طيها، وذكرت اليمين مبالغة في الاقتدار والتحقيق للملك. وقيل اليمين القوة قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين (1) ثم نزه نفسه تعالى عن أن يكون له شريك في العبادة أو معين في خلق شئ من الأشياء. وقال سبحانه وتعالى عما يشركون يعني ما يضيفه إليه الكفار من الأصنام والأوثان. وقوله (ونفخ في الصور) قال قتادة هو جمع صورة، فكأنه ينفخ في صور الخلق وروى في الخبر ان الصور قرن ينفخ فيه الصور. ووجه الحكمة في ذلك أنه علامة جعلها الله تعالى ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف. ثم تجديد الخلق، فشبه بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول، ولا يتصور ذلك للنفس بأحسن من هذه الطريقة. وقوله (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) قيل: معناه يموت من شدة تلك الصيحة التي تخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض، ومنه الصواعق التي تأتي عند شدة الرعد، وصعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة الشديدة. وقوله (إلا من شاء الله) استثنى من جملة الذين يهلكون قوما من الملائكة، لان الملك الذي ينفخ فيه يبقى بعده، ويجوز أن يبقى غيره من الملائكة. وقال السدي: المستثنى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت - وهو المروي في حديث مرفوع - وقال سعيد بن جبير: هم الشهداء. الذين قتلوا في سبيل الله. وقوله (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) فهذه النفخة الثانية للحشر. وقال قتادة: وروي أيضا ان صاحب الصور إسرافيل عليه السلام وقيل: يفني الله تعالى بعد الصعق وموت الخلق الأجسام كلها ثم يعيدها ومعنى فإذا هم قيام ينظرون إخبار عن سرعة إيجاد هم، لأنه إذا نفخ النفخة الثانية أعاد هم عقيب ذلك فيقومون من قبور هم احياء ينظرون ما يراد ويفعل بهم. وقوله (وأشرقت الأرض بنور ربها) قيل: معناه أضاءت بعدل ربها والحكم بالحق فيها. وقال الحسن: معناه بعدل ربها (ووضع الكتاب) يعني الكتب التي أعمالهم فيها مكتوبة (وجئ بالنبيين والشهداء) لأنهم يؤتى بهم. والشهداء هم الذين يشهدون على الأمم للأنبياء بأنهم قد بلغوا، وانهم كذبتهم أممهم، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير (وقضي بينهم بالحق) أي يفصل بينهم بالحق ولا ينقص أحد منهم شيئا مما يستحقه من الثواب ولا يفعل به مالا يستحقه من العقاب، وقوله (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) معناه انه يعطي كل نفس عاملة بالطاعات جزاء ما عملته على الكمال دون النقصان والله تعالى أعلم من كل أحد بما يفعلون من طاعة أو معصية لا يخفى عليه شئ منها.
1- مر تخريجه في 8 - 512 وهو في تفسير الشوكاني 4 - 462.