الآيات 26-31
قوله تعالى: ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾
قال المبرد العرب تقول لكل شئ يصل إليك بجارحة من الجوارح: ذق أي يصل معرفته إليك، كما يصل إليك معرفة ما تذوقه بلسانك من حلو ومر ومنه قوله (فذاقوا وبال أمرهم) (1) وقوله (ذق انك أنت العزيز الكريم) (2) والخزي هو المكروه والهوان، وخزي فلان إذا وقع في المكروه، فالخزي افراط الاستحيا، يقال ما استحيا وما تخزى، ورأيته خزيان نادما، قال الشاعر: ولا أنت دياني فتخزوني قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب (ورجلا سالما) على وزن (فاعل) معناه خالصا لا يشركه فيه غيره لان الله تعالى ضرب مثلا للمؤمن والكافر، فشبه الكافر بشركاء متنازعين مختلفين، والمؤمن من عبد إلها واحدا. الباقون " سلما لرجل " على المصدر من قولهم: سلم فلان الله سلما بمعنى خلص له خلوصا، كما يقولون: ربح الرجل في تجارته ربحا وربحا: وسلم سلما وسلما وسلامة، وتقديره ذا سلم، فمعنى " إذا قهم الله " أي جعلهم يدركون الألم، كما يدرك الذائق الطعام، والخزي الذل الذي يستحيا من مثله بما فيه من الفضيحة، وخزيهم في الحياة الدنيا هو ما فعله بهم من العذاب العاجل من إهلاكهم واستئصالهم الذي يبقى ذكره على الأبد. ثم قال تعالى " ولعذاب الآخرة أكبر " مما فعل بهم في دار الدنيا " لو كانوا يعلمون " صدق ما أخبرنا به. ثم اقسم تعالى بأن قال " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون " فالتذكر طلب الذكر بالفكر، وهذا حث على طلب الذكر المؤدي إلى العلم، والمعنى لكي يتذكروا، ويتعظوا فيجتنبوا ما فعل من تقدم من الكفر والمعاصي، لئلا يحل بهم كما حل بأولئك. وقوله " قرآنا عربيا " أي أنزلناه قرآنا عربيا غير ذي عوج أي غير ذي ميل عن الحق بل هو مستقيم موصل إلى الحق، ويقال في الكلام عوج - بكسر العين - إذا عدل به عن جهة الصواب. والمثل علم شبه به حال الثاني بالأول. والمثال مقياس يحتذى عليه، وإنما قال: ضربنا مثلا واحدا، ولم يقل مثلين، لأنهما جميعا ضربا مثلا واحدا، ومثله قوله تعالى " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " (3) ولوثني لكان حسنا - في قول الفراء - وقوله " لعلهم يتقون " معناه لكي يتقوا معاصي الله خوفا من عقابه. ثم قال تعالى " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون " فالتشاكس التمانع والتنازع، تشاكسوا في الامر تشاكسا، وفي الشركاء تشاكس في البيع، وتدبير المملوك ونحو ذلك " ورجلا سلما لرجل " فضرب المثل للموحد بعبادته الله تعالى وحده - عز وجل - والمشرك بعبادته غير الله - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد - (هل يستويان مثلا) في حسن الحال، لا يستويان لان الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وحياطته ما لا يستحقه صاحب الشركاء المختلفين في امره. ثم قال (الحمد لله) يعني المستحق للشكر والثناء على الحقيقية هو الله تعالى (بل أكثرهم لا يعلمون) حقيقة، لجهلهم بالله ومواضع نعمه. ثم قال لنبيه (إنك يا محمد (ميت) أي عاقبتك الموت، وكذلك هؤلاء لان (كل نفس ذائقة الموت) (4) (ثم إنكم) يبعثكم الله (يوم القيامة) ويحشركم يوم القيامة فتختصمون عند الله. ومعناه كل طائفة منكم ترد على صاحبتها يوم القيامة وتخاصمها، فالاختصام رد كل واحد من الاثنين ما اتى به الآخر على وجه الانكار عليه. وقد يكون أحدهما - محقا والآخر مبطلا كالموحد والملحد. وقد يكونان جميعا مبطلين كاختصام اليهودي والنصراني، وقد يكونان جميعا محقين إذا قطع كل واحد منهما على صواب اعتقاده دون غيره، ويكون اختصامهم في الآخرة بذم رؤساء الضلالة في ما دعوهم إليه ودفع أولئك عن أنفسهم، فيقول الأولون: لولا أنتم لكنا مؤمنين ويقول الرؤساء ما كان لنا عليكم من سلطان إلا أن دعوناكم فاستجبتم لنا. واقبل بعضهم على بعض يتلاومون. وقال ابن زيد: الاختصام يكون بين المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس: يكون بين المهتدين والضالين: والصادقين والكاذبين وقال أبو العالية: يكون بين أهل القبلة. ورجل مشكس إذا كان سئ الخلق. وقال السدي: هذا مثل ضربه الله لأوثانهم. وقال قتادة: هذا للمشرك تنازعه الشياطين مغريين بعضهم ببعض (ورجلا سالما) وهو المؤمن أخلص الدعوة الله والعبادة، وقال أبو عبيدة: متشاكسون الرجل الشكس ورجلا سالما الرجل الصالح. وقال أبو عمرو: معناه خالصا لله. وقال أبو علي: رجلا فيه شركاء يعني في اتباعه أو في شيعته.1- سورة 64 التغابن آية 5.
2- سورة 44 الدخان 49.
3- سورة 23 المؤمنين آية 51.
4- سورة 3 آل عمران آية 185 وسورة 21 الأنبياء آية 35 وسورة 29 العنكبوت آية 57.