الآيات 6-7

قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

القراءة:

قرأ السوسي، وابن فرج، وهبة عن الأخفش والترمذي إلا ابن فرج، ومدين من طريق عبد الله بن سلام، والبرجمي وخلف - بضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ. الباقون - بضم الهاء من غير اشباع - وهذا خطاب من الله تعالى لجميع خلقه من البشر، يقول لهم على وجه تعداد نعمه عليهم وامتنانه لديهم (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) يعني آدم لان جميع البشر من نسل آدم. وقوله (ثم جعل منها زوجها) قيل: أنه خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم. وقال قوم: خلقها من فضل طينته. وفى قوله (ثم جعل منها زوجها) و (ثم) تقتضي التراخي والمهملة، وخلق الوالدين قبل الولد، وذلك يقتضي أن الله تعالى خلق الخلق من آدم ثم بعد ذلك خلق حواء، وذلك بخلاف المعلوم، لان خلق حواء كان قبل خلق ولد آدم، فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: ان الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر. ثم خلق بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاع آدم - على ما روي في الاخبار - وهذا ضعيف لما بيناه في غير موضع (1) في ما مضى

الثاني: ان ذلك وإن كان مؤخرا في اللفظ فهو مقدم في المعنى، ويجري مجرى قول القائل: قد رأيت ما كان منك اليوم ثم ما كان منك أمس، وإن كان ما كان أمس قبل ما يكون اليوم.

والثالث: انه معطوف على معنى واحدة كأنه قال من نفس واحدة بمعنى أوجد ها. وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله (زوجها) غير حواء، بل يريد المزدوج من نسل آدم من الذكور والإناث، فكأنه قال تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) وهي آدم عليه السلام ثم جعل المزدوج من نسل هذه النفس، وهذا لا محالة متأخر عن خلق النفس الواحدة التي هي آدم. وقيل أيضا: إن سبب دخول (ثم) أن الاعتداد بهذه النعمة، والذكر لها على الامتنان، إنما كان بعد ذكر خلقنا من نفس واحدة، فكأنه قال: هو الذي ذكر لكم واعتد عليكم بأنه خلقكم من نفس واحدة، ثم عطف على هذا الاعتداد والامتنان ذكر نعمة أخرى، وهي ان زوج هذه النفس المخلوقة مخلوقة منها. فزمان الخلق المزوج وإن كان متقدما، فزمان ذكره والاعتداد به متزاوج، وزمان الذكر للنعم والاعتداد بها غير الترتيب في زمان الايجاد والتكوين، كما يقول أحدنا لغيره: لي عليك من النعم كذا اليوم، ثم كذا أمس، وإن كان المعطوف متقدما على المعطوف عليه إذا كان زمان الامتنان بذلك على خلاف ترتيب زمان ايصال النعم. وقيل: إن المراد ب? (ثم) الواو، فإنه قد يستعمل الواو بمعنى (ثم) و (ثم) بمعنى الواو، لان معنى الجمع الانضمام، وإن أراد بعضه على بعض. قال الله تعالى (فالينا مرجعهم ثم الله شهيد) (2) ومعناه والله شهيد. وقوله (وانزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) قال الحسن: معناه وجعل لكم منها. وقال: أنزلها بعد ان خلقها في الجنة ويعني بها، الإبل، والبقر، والضان، والمعز من كل صنف اثنين. وهما زوجان. وهو قول قتادة ومجاهد والضحاك. وقوله (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) قال قتادة ومجاهد والضحاك والسدي: معناه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم يكسي العظام لحما ثم ينشئ خلقا آخر. وقال ابن زيد: معناه الخلق في بطون الأمهات بعد الخلق في ظهر آدم. وقوله (في ظلمات ثلاث) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد: يعني ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. وقيل: صلب الرجل وظلمة الرحم. ثم خاطب خلقه فقال (ذلكم الله ربكم) يعني الذي خلق ما ذكره هو الذي أنشأكم وهداكم ويملك التصرف فيكم (له الملك) على جميع المخلوقات (لا إله إلا هو) مستحق للعبادة (فأنى تصرفون) المعنى تؤفكون أي يكف تنقلبون عن ذلك إلى اتخاذ الآلهة سواه. ثم قال تعالى مخاطبا لهم (إن تكفروا فان الله غني عنكم) ومعناه إن تجحدوا نعم الله فلا تشكروه، فان الله غني عن شكركم (ولا يرضى العبادة الكفر) وفى ذلك دلالة على أن الكفر ليس من فعل الله، ولا بإرادته، لأنه لو كان مريدا له لكان راضيا به، لان الرضا هو الإرادة إذا وقعت على وجهه. ثم قال (وان تشكروا يرضه لكم) أي ان تشكروا نعمه وتعترفوا بها يرضه لكم ويريده منكم ويثيبكم عليه. واشباع الهاء أجود، لان الهاء أولها متحرك مثل (شرا يره و.. خيرا يره) (3)، والهاء إذا نفتح ما قبلها في نحو الفعل لم يجز الا الاشباع كقولهم كهلهو والهاء (في يرضه) كناية عن المصدر الذي دل عليه (وان تشكروا) كقولهم: من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له. وشكر الله لعبده هو إثابته على الشكر والطاعات، والشكر من العبد الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. ومن أسكن الهاء قال أبو الحسن: هي لغة كقول الشاعر: ونضواي مشتاقان له أرقان فعلى هذه اللغة يحمل دون أن يجري الوصل مجرى الوقف. وقوله (ولا تزر وازرة وزر أخرى) معناه لا يؤاخذ بالذنب الا من يفعله ويرتكبه، ولا يؤاخذ به غيره، وذلك نهاية العدل. وفى ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة في أن الله تعالى يعذب أطفال الكفار بكفر آبائهم. وقوله (ثم إليه مرجعكم) ومعناه إن مصيركم يوم القيامة إلى حيث لا يملك الأمر والنهي سواه (فينبئكم بما كنتم تعملون) أي يخبركم بما عملتموه ويواقفكم عليه ويجازيكم بحسب ذلك، انه عليم بذات الصدور لا يخفى عليه شئ لا سر ولا علانية.


1- انظر بالمجلد الخامس ص 34 - 35.

2- سورة 10 يونس آية 46.

3- سورة 99 الزلزال آية 7 - 8.