الآيات 62-67

قوله تعالى: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ، لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ، قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾

يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه " لا نكلف نفسا إلا وسعها " يعنى إلا على قدر طاقتها وقوتها، ومثله قوله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (1) والوسع الحال التي يتسع بها السبيل إلى الفعل. وقيل: إن الوسع دون الطاقة. والتكليف تحميل ما فيه المشقة بالأمر والنهي والاعلام، وهو مأخوذ من الكلفة في الفعل، والله تعالى مكلف عباده تعريضا لهم للنفع الذي لا يحسن الابتداء بمثله، وهو الثواب. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة: في تكليف ما لا يطاق، لأنه لو كلف ما لا يطيقه العبد لكان قد كلفه ما ليس في وسعه. والآية تمنع من ذلك. وقوله " ولدينا كتاب ينطق بالحق " يريد الكتاب الذي فيه اعمال العباد مكتوبة من الطاعة والمعصية تكتبه عليه الملائكة الموكلون به كما قال " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " (2) ثم أخبر تعالى " انهم لا يظلمون " أي لا يؤاخذون بما لا يفعلونه ولا ينقصون عما استحقوه. ثم اخبر تعالى فقال " بل قلوبهم في غمرة من هذا " أي في غفلة من هذا اليوم، وهذه المجازاة. وقال الحسن: معناه في حيرة. وهذا اخبار منه تعالى بما يكون منهم في المستقبل من الاعمال القبيحة، زائدة على ما ذكره وحكاه أنه فعلهم " ولهم اعمال من دون ذلك هم لها عاملون " قيل في معناه قولان:

أحدهما: قال قتادة وأبو العالية - وفى رواية عن مجاهد - ان لهم خطايا من دون الحق.

الثاني: قال الحسن وابن زيد - وفى رواية عن مجاهد - أيضا: أعمالا من دون ما هم عليه لابد من أن يعملوها. وقوله " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون " فالمترف المتقلب في لين العيش ونعومته. ومنه قوله " وأترفناهم في الحياة الدنيا " (3) و (يجأرون) معناه يضجون، لشدة العذاب. وقال ابن عباس: يستغيثون. وقال مجاهد: كان ذلك بالسيوف يوم بدر، والجؤار: رفع الصوت، كما يجأر الثور، قال الأعشى:

يراوح من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤارا (4)

وقيل معنى " يجأرون " يصرخون بالتوبة، فيقول الله لهم " لا تجأروا اليوم " أي لا تصرخوا في هذا اليوم " إنكم منا لا تنصرون " بقبول التوبة، ولا لكم من يدفع عنكم ما أفعله من العذاب. ثم يقول الله تعالى لهم " قد كانت آياتي " أي حججي وبراهيني " تتلى عليكم " من القرآن وغيره " فكنتم على أعقابكم تنكصون " فالنكص الرجوع القهقرى وهو المشي على الأعقاب إلى خلف، وهو أقبح مشية. مثل شبه الله به أقبح حال في الاعراض عن الداعي إلى الحق. وقال سيبويه: لأنه يمشي ولا يرى ما وراءه، فهو النكوص. وقال مجاهد: ينكصون معناه يستأخرون. وقيل: يدبرون. وقوله " مستكبرين " نصب على الحال، ومعناه " تنكصون " في حال تكبركم عن الانقياد للحجج الله، والإجابة لأنبيائه. وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك: " مستكبرين به " أي يحرم الله أنه لا يظهر عليكم فيه أحد. وقوله " سامرا تهجرون " فالسامر الذي يحدث بالسمر ليلا، ومنه السمرة والسمار، لان جميع ذلك من اللون الذي بين السواد والبياض. وقيل: السمر ظل القمر، ويقال له الفخت، ومعنى " سامرا " أي سمارا، فوضع الواحد موضع الجمع لأنه في موضع المصدر، كما يقال قوموا قائما أي قياما قال الشاعر:

من دونهم إن جئتم سمرا * عزف القيان ومجلس غمر (5)

وكانوا يسمرون حول الكعبة بالليل. وقيل: إنما وحد، لأنه في موضع الوقت وتقديره لئلا تهجرون، والهجر الكلام المرفوض، وهو المهجور منه، لأنه لا خير فيه. والنائم يهجر في نومه أي يأتي بكلام مختلط لا فائدة فيه. وفى معنى تهجرون قولان:

أحدهما: تهجرون الحق بالاعراض عنه، في قول ابن عباس.

الثاني: تقولون الهجر، وهو السئ من القول، في قول سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد. وقرأ نافع وحده " تهجرون " بضم التاء أراد من الهجر، وهو الكلام السئ. الباقون بفتح التاء وضم الجيم، على ما فسرناه، يقال: هجر يهجر هجرا إذا هذى.


1- سورة 2 البقرة آية 286.

2- سورة 50 ق آية 18.

3- سورة 23 المؤمنون آية 33.

4- ديوانه (دار بيروت) 84 وقد مر في 1 / 263.

5- اللسان (سمر). وتفسير الطبري 18 / 26 والقرطبي 12 / 137.