الآيات 21-25
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر ونافع وأبو بكر عن عاصم " نسقيكم " بفتح النون. الباقون بضمها. قال بعضهم: هم لغتان سقيت وأسقيت، قال الشاعر:
سقى قومي بني مجد واسقي * نميرا والقبائل من هلال (1)
ولا يجوز أن يكون المراد في البيت (وأسقى) مثل قوله " وأسقيناكم ماء فراتا " (2) لأنه لا يكون قد دعا لقومه وخاصته بدون ما دعا للأجنبي البعيد عنه. والصحيح ان سقيت للشفة وأسقيت للأنهار والانعام تقول: دعوت الله ان يسقيه. ومن قرأ بضم النون أراد: انا جعلنا ما في ضروعها من الألبان سقيا لكم، كما يقال: أسقيناهم نهرا إذا جعلته سقيا لهم، وهذا كأنه أعم، لان ما هو سقيا لا يمتنع أن يكون للشفة، وما يكون للشفة - فقط - يمتنع أن يكون سقيا. وما أسقانا الله من البان الانعام أكثر مما يكون للشفة ومن فتح النون جعل ذلك مختصا به الشفاه دون المزارع والمراعي، فلم يكن مثل الماء في قوله " فأسقيناكموه " (3) وقوله " وأسقيناكم ماء فراتا " لان ذلك يصلح للامرين، ومن ثم قال " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " (4) وإنما قال ههنا " مما في بطونها " وفي النحل " بطونه " (5) لأنه إذا أنث، فلا كلام لرجوع ذلك إلى الانعام. وإذا ذكر فلان النعم والانعام بمعنى واحد، ولئن التقدير: ونسقيكم من بعض ما في بطونه. يقول الله تعالى " وإن لكم " معاشر العقلاء " في الانعام " وهي الماشية التي تمشي على نعمة في مشيها، خلاف الحافر في وطئها، وهي الإبل والبقر والغنم (لعبرة) يعني دلالة تستدلون بها على توحيد الله، وصفاته التي يختص بها دون سواه. وقوله (نسقيكم مما في بطونها) فالسقي اعطاء ما يصلح للشرب، فلما كان الله تعالى قد أعطى العباد ألبان الانعام، باجرائه في ضروعها، وتمكينهم منها، من غير حظر لها، كان قد سقاهم إياها. ثم قال (ولكم فيها) يعني في الانعام " منافع كثيرة " ولذات عظيمة، ببيعها والتصرف فيها وأكل لحومها، وشرب ألبانها، وغير ذلك من الانتفاع بأصوافها وأوبارها، واشعارها، وغير ذلك (ومنها تأكلون) يعني اللحم، وغيره من الألبان وما يعمل منها. ثم قال: ومن منافعها انكم تحملون عليها الأثقال في أسفاركم بأن تركبوها وتحملوا عليها أثقالكم. ومثل ذلك على الفلك، وهي السفن. ثم اقسم تعالى انه أرسل نوحا إلى قومه، يدعوهم إلى الله، ويقول لهم (اعبدوا الله) وحده لا شريك له، فإنه لا معبود لكم غيره. ويحذرهم من عقابه، ويقول (أفلا تتقون) نقمة الله بالاشراك معه في العبادة. ثم حكى أن الملا وهم - جماعة اشراف قومه - الكفار، قال بعضهم لبعض: ليس نوح هذا إلا مخلوقا مثلكم، وبشر مثلكم، وليس بملك (يريد أن يتفضل عليكم) فيسودكم ويترأسكم وأن يكون أفضل منكم " ولو شاء الله " ما قاله من توحيده واختصاصه بالعبادة (لأنزل ملائكة) عليكم يدعونكم إلى ذلك. ثم قالوا " ما سمعنا بهذا " يعني بما قال نوح، وبمثل دعوته. وقيل بمثله بشرا أتى برسالة من ربه في أسلافنا الماضين وآبائنا وأجدادنا الذين تقدمونا. ثم قالوا: (إن هو الا رجل به جنة) اي ليس هذا - يعنون نوحا - إلا رجلا به جنة أي تعتاده غمرة تنفي عقله حتى يتخيل إليه ما يقوله ويخرجه عن حال الصحة وكمال العقل، فكان اشراف قومه يصدون الناس عن اتباعه، بما حكى الله عنهم، وقالوا: انه لمجنون يأتي بجنونه بمثل هذا. ويحتمل أن يكونوا أرادوا كأنه في طعمه فيما يدعو إليه مجنون. ثم قال بعضهم لبعض: (تربصوا به حتى حين) اي إلى وقت ما، كأنهم قالوا لهم تربصوا به الهلاك وتوقعوه.
1- مر تخريجه في 6 / 399.
2- سورة 77 المرسلات آية 27.
3- سورة 15 الحجر آية 22.
4- سورة 76 الدهر آية 21.
5- سورة 16 النحل آية 66.