الآيات 12-16

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " عظما " في الموضعين على التوحيد. الباقون على الجمع. فمن وحد، فلانه اسم جنس يقع على القليل والكثير. ومن جمع، فلقوله " أ إذا كنا عظاما ورفاتا " (1) وقوله " أ إذا كنا عظاما نخرة " (2) وقوله " من يحيي العظام " (3) وما أشبه ذلك. يقول الله تعالى على وجه القسم، انه: خلق " الانسان من سلالة من طين " فقال ابن عباس ومجاهد: المراد بالانسان كل انسان، لأنه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة. وقال قتادة: المراد بالانسان آدم، لأنه استل من أديم الأرض. وقيل: استل من طين. والسلالة صفوة الشئ التي تخرج منه، كأنها تستل منه. والسلالة صفوة الشئ التي تجري قبل ثفله، وكدره، لأنها متقدمة على ثفله، كتقديم السلف والاجر على الآخرة. وقد تسمى النطفة سلالة والولد أيضا سلالة وسليلة. والجمع سلالات، وسلائل، قال الشاعر:

وهل كنت إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تجللها بغل (4)

وقال آخر:

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا * سلالة فرج كان غير حصين (5)

وقال آخر: يقذفن في أسلابها بالسلائل (6) وقال آخر:

إذا نتجت منها المهارى تشابهت * على القود لا بالأنوف سلائله (7)

وفي الآية دلالة على أن الانسان هو هذا الجسم المشاهد، لأنه المخلوق من نطفة، والمستخرج من سلالة، دون ما يذهب إليه قوم: من أنه الجوهر البسيط، أو شئ لا يصح عليه التركيب والانقسام، على ما يذهب إليه معمر وغيره. وقوله " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " المعنى جعلنا الانسان، وهو من ولد من نسل آدم " نطفة " وهي القطرة من ماء المني التي يخلق الله منها الحيوان، على مجرى العادة في التناسل، فيخلق الله من نطفة الانسان إنسانا ومن نطفة كل حيوان ما هو من جنسه. ومعنى " مكين " أي مكين لذاك، بأن هيئ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له. وقوله " ثم خلقنا النطفة علقة " فالعلقة القطعة من الدم إذا كانت جامدة، فبين الله تعالى أنه يصير تلك النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، وهي القطعة من اللحم. ثم اخبر انه يجعل المضغة " عظاما ". وقرئ " عظما " وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم. فمن قرأ " عظاما " أراد ما في الانسان من أقطاع العظم. ومن قرأ " عظما " فلانه اسم جنس يدل على ذلك. ثم بين تعالى انه يكسو تلك " العظام لحما " ينشئه فوقها، كما تكسى الكسوة. وقوله ثم " أنشأناه خلقا آخر " يعني بنفخ الروح فيه - في قول ابن عباس ومجاهد - وقيل: نبات الأسنان والشعر، واعطاء العقل والفهم. وقيل " خلقا آخر " معناه ذكر أو أنثى. ثم قال " فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعنى (تبارك) استحق التعظيم بأنه قديم لم يزل، ولا يزال، وهو مأخوذ من البروك، وهو الثبوت. وقوله " أحسن الخالقين " فيه دلالة على أن الانسان قد يخلق على الحقيقة، لأنه لو لم يوصف بخالق إلا الله، لما كان لقوله " أحسن الخالقين " معنى. وأصل الخلق التقدير، كما قال الشاعر:

ولانت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري (8)

ثم خاطب الخلق. فقال (ثم إنكم) معاشر الخلق بعد هذا الخلق والاحياء (لميتون) أي تموتون عند انقضاء آجالكم. يقولون لمن لم يمت ويصح عليه الموت: ميت ومائت. ولا يقولون لمن مات: مائت. وكذلك في نظائره سيد وسائد. وقوله (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أي تحشرون إلى الموقف والحساب والجزاء بعد أن كنتم أمواتا، ولا يدل ذلك على أنه لا يحييهم في القبور للمسألة، لان قوله: انه يميتهم عند فناء آجالهم ويبعثهم يوم القيامة، لا يمنع من أن يحييهم فيما بين ذلك، ألا ترى أن القائل لو قال: دخلت بغداد في سنة مئة. وخرجت منها في سنة عشر ومئة، لم يدل على أنه لم يخرج فيما بينهما وعاد، فكذلك الآية. على أن الله تعالى اخبر انه أحيا قوما، فقال لهم الله موتوا، ثم أحياهم، فلابد من تقدير ما قلناه للجميع. وفيه دلالة على بطلان قول معمر، والنظام في الانسان.


1- سورة 17 الاسرى آية 49، 98.

2- سورة 79 النازعات آية 11.

3- سورة 36 يس آية 78.

4- تفسير القرطبي 12 / 109 والطبري 18 / 6.

5- تفسير الطبري 18 / 6 وتفسير القرطبي 12 / 109 وقد نسبه لحسان، وروايته (حملت) بدل (فجاءت).

6- تفسير الطبري 18 / 6.

7- تفسير الطبري 18 / 6.

8- مر تخريجه في 6 / 369.