الآيات 51-55
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (معجزين) بالتشديد، بمعنى مثبطين ومبطئن، وهو قول مجاهد. الباقون (معاجزين) بالألف. قال قتادة: معناه مشاقين معاندين. يقول الله تعالى ان (الذين سعوا في آيات الله معجزين) ومعناه إن الذين يعجزون المؤمنين في قبول هذه الآيات اي يعجزونهم عن اقامتها بجحدهم تدبير الله (عز وجل) لها. ويحتمل أن يكون معناه يعجزونهم عن تصحيحها. والسعي الاسراع في المشي، ومن قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) (1) وسعى يسعى سعيا، فهو ساع، وجمعه سعاة، واستسعاه في الامر استسعاء. وقال قتادة: ظنوا انهم يعجزون الله أي يفوتونه وأن يعجزوه. وقال مجاهد: معناه مبطئين عن اتباع آيات الله. ومن قرأ (معاجزين) أراد انهم يجادلون عجز الغالب. ومن قرأ (معجزين) بالتشديد أراد طلب اظهار العجز. وقال ابن عباس: معنى (معاجزين) مشاقين. وقيل معنى (معجزين) مسابقين، يقال: أعجزني الشئ بمعني سبقني وفاتني. وقال أبو علي: معاجزين ظانين ومعتقدين انهم يفوتونا، لانكارهم البعث. ومعجزين أي ينسبون من اتبع النبي صلى الله عليه وآله إلى العجز. وقال مجاهد: معناه مثبطين للناس عن النبي صلى الله عليه وآله واتباعه. وقوله " أولئك أصحاب الجحيم " معناه الذين يسعون في آيات الله طالبين إظهار عجزه ان لهم عذاب الجحيم، وهم ملازمون لها. وقوله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد ابن قيس: انهم قالوا: كان سبب نزول الآية انه لما تلا النبي صلى الله عليه وآله " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " (2) القى الشيطان في تلاوته (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي) ومعنى الآية التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وانه لم يبعث الله نبيا، ولا رسولا إلا إذا تمنى - يعني تلا - القى الشيطان في تلاوته بما يحاول تعطيله، فيرفع الله ما ألقاه بمحكم آياته. وقال المؤرج: الأمنية الفكرة، بلغة قريش. وقال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا تأخر عنه الوحي تمنى أن ينزل عليه فيلقي الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته. وقال أبو علي الجبائي: إنما كان يغلط في القراءة سهوا فيها، وذلك جائز على النبي، لأنه سهو لا يعرى منه بشر، ولا يلبث ان ينبهه الله تعالى عليه. وقال غيره: إنما قال ذلك في تلاوته بعض المنافقين عن اغواء الشياطين، وأوهم أنه من القرآن. وقال الحسن: إنما قال: هي عند الله كالغرانيق العلى، يعني الملائكة في قولكم، وإن شفاعتهن لترتجي في اعتقادكم. والتمني في الآية معناه التلاوة، قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر (3)
وقال الجبائي: إنما سها النبي صلى الله عليه وآله في القراءة نفسها. فأما الرواية بأنه قرأ تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي، فلا أصل لها، لان مثله لا يغلط على طريق السهو، وإنما يغلط في المتشابه. وقوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي يزيل الله ما يلقيه الشيطان من الشبهة " ثم يحكم الله آياته " حتى لا يتطرق عليها ما يشعثها. وقال البلخي: ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما فلما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسوس بهما إليه الشيطان، وألقاهما في فكره، فكاد أن يجريهما على لسانه، فعصمه الله، ونبهه، ونسخ وسواس الشيطان، وأحكم آياته، بأن قرأها النبي صلى الله عليه وآله محكمة سليمة مما أراد الشيطان. ويحوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله حين اجتمع إليه القوم، واقترحوا عليه أن يترك ذكر آلهتهم بالسوء، أقبل عليهم يعظهم ويدعوهم إلى الله، فلما انتهى رسول الله إلى ذكر اللات والعزى. قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بها صوته، فألقاهما في تلاوته في غمار من القوم وكثرة لغطهم، فظن الكفار ان ذلك من قول النبي، فسجدوا عند ذلك. وقوله " والله عليم حكيم " معناه إنه عالم بجميع المعلومات، واضع الأشياء مواضعها. والآية تدل على أن كل رسول نبي، لأنه تعالى ذكر انه أرسلهم، وإنما قال من رسول ولا نبي، لاختلاف المعنيين، لان الرسول يفيد أن الله أرسله، والنبي يفيد أنه عظيم المنزلة يخبر عن الله. وقد قال بعض المفسرين: إن المراد بالتمني في الآية تمني القلب، والمعنى انه ما من نبي ولا رسول إلا وهو يتمنى بقلبه ما يقربه إلى الله من طاعاته، وإن الشيطان يلقي في أمنيته بوسوسته واغوائه ما ينافي ذلك، فينسخ الله ذلك عن قلبه بأن يلطف له ما يختار عنده ترك ما أغواه به. وقوله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض " بيان من الله تعالى أنه يجعل ما يلقيه الشيطان من الأمنية فتنة، فمعنى (ليجعل) يحتمل أمرين:
أحدهما: الحكم والتسمية، كما تقول جعلت حسني قبيحا، ويكون المراد انه ينسخ ما يلقي الشيطان طلبا للفتنة والاغواء.
الثاني: انه أراد ليجعل نسخ ما يلقي الشيطان فتنة، لان نفس فعل الشيطان لا يجعله الله فتنة، لان ذلك قبيح، والله تعالى منزه عن القبائح اجمع، فمعنى الفتنة في الآية المحنة، وتغليظ التكليف " للذين في قلوبهم مرض " أي شك ونفاق وقلة معرفة " والقاسية قلوبهم " يعني من قسى قلبه عن اتباع الحق. وقيل: هم الظالمون. ثم اخبر تعالى " إن الظالمين " لنفوسهم " لفي شقاق بعيد " أي مشاقة بعيدة من الله تعالى، وبين انه يفعل ذلك " ليعلم الذين أوتوا العلم " بالله وصفته وأن أفعاله صواب " انه الحق من ربك " فيصدقوا به " فتخبت له قلوبهم " أي تطمئن إليه وتسكن. وبين ان الله تعالى يهدي من يؤمن إلى صراط مستقيم، بأن يلطف له ما يعلم أنه يهتدي عنده " إلى صراط مستقيم ". ثم قال " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه " يعني من القرآن. ومعناه الاخبار عمن علم الله تعالى من الكفار انهم لا يؤمنون بالآية خاصة. وهو قول ابن جريج إلا أن (تأتيهم الساعة) يعني القيامة (بغتة) أي فجأة، وعلى غفلة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) قال الضحاك: هو عذاب يوم القيامة. وقال مجاهد وقتادة: هو عذاب يوم بدر. وقيل معنى (عقيم) أي لا مثل له في عظم امره لقتال الملائكة قال الشاعر:
عقم النساء بأن يلدن شبيهه * إن النساء بمثله لعقيم (4).
1- سورة الجمعة آية 9.
2- سورة 53 النجم آية 19 - 20.
3- مر هذا البيت في 1 / 319.
4- البيت في مجمع البيان 4 / 92.