الآيات 46-50
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " مما يعدون " بالياء، على الخبر عن الكفار. الباقون بالتاء، على الخطاب. لما اخبر الله تعالى عن اهلاك الأمم الماضية جزاء على كفرهم ومعاصيهم، نبه الذين يرتابون بذلك. فقال " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " إذا شاهدوا آثار ما أخبرنا به، وسمعوا صحة ما ذكرناه عمن أخبرهم بصحته من الذين عرفوا أخبار الماضين. وفيها دلالة على أن العقل هو العلم، لان معنى (يعقلون بها) يعلمون بها مدلول ما يرون من العبرة. وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم، لأنه تعالى وصفها بأنها هي التي تذهب عن إدراك الحق، فلولا أن التبيين يصح أن يحصل فيها * لما وصفها بأنها تعمى، كما لا يصح أن يصف اليد والرجل بذلك. والهاء في (انها لا تعمى) هاء عماد، وهو الاضمار على شروط التفسير، وإنما جاز أن يقول: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، للتأكيد لئلا يتوهم بالذهاب إلى غير معنى القلب، لأنه قد يذهب إلى أن فيه اشتراكا كقلب النخلة، فإذا قيل هكذا كان أنفى للبس بتجويز الاشتراك واما قوله (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (1) فلان القول قد يكون بغير الفم. والمعنى في الآية ان الابصار وإن كانت عميا، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان عارفا بالحق. وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يجحد معه معرفة الله ووحدانيته. ثم قال (ويستعجلونك) يا محمد (بالعذاب) أن ينزل عليهم، ويستبطئونه، وان الله لا يخلف ما يوعد به (وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يوم من أيام الآخرة، يكون كألف سنة من أيام الدنيا. وقال ابن زيد، وفى رواية أخرى عن ابن عباس: انه أراد يوما من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. والمعنى (وان يوما عند ربك) من أيام العذاب، في الثقل والاستطالة (كألف سنة مما تعدون) في الدنيا، فكيف يستعجلونك بالعذاب لولا جهلهم، وهو كقولهم: أيام الهموم طوال، وأيام السرور قصار. قال الشاعر:
يطول اليوم لا ألقاك فيه * ويوم نلتقي فيه قصير (2)
وأنشد أبو زيد:
تطاولن أيام معن بنا * فيوم كشهرين إذ يستهل (3)
وقال جرير: ويوم كأبهام الحبارى لهوته (4) وقيل " وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون " في طول الامهال للعباد لصلاح من يصلح منهم، أو من نسلهم، فكأنه ألف سنة لطوال الأناة. وقيل (وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون) في مقدار العذاب في ذلك اليوم، أي انه لشدته وعظمه كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم السرور والنعيم مثل ما يكون في الف سنة من أيام الدنيا لو بقي ينعم ويلتذ فيها. ثم قال تعالى (وكم من قرية أمليت لها) فالاملاء والاملال والتأخير نظائر (وهي ظالمة) اي مستحقة لتعجيل العقاب، لكن اخذتها وأهلكتها والي المصير، لكل أحد، بأن يزول ملك كل مالك ملك شيئا في دار الدنيا. ثم قال لنبيه (قل يا أيها لناس إنما أنا لكم نذير مبين) اي مخوف من معاصي الله بعقابه، مبين لكم ما يجب عليكم فعله، وما يجب عليكم تجنبه (فالذين آمنوا) اي صدقوا بالله وأقروا برسله (لهم مغفرة) من الله تعالى لمعاصيهم ولهم (رزق كريم) اي مع اكرامهم بالثواب الذي لا يقاربه تعظيم وتبجيل.
1- سورة 3 آل عمران آية 167.
2- هذا البيت ساقط من المطبوعة.
3- هو في مجمع البيان 4 / 90.
4- وفي المخطوطة (ويوم كأبهام الحبارى لطوله) ولم أجده في ديوان جرير وإنما يوجد ابيات تشبه هذا وهي: ويوم كابهام القطاء مزين * إلى صاه غالب لي باطله لهوت بجني عليه سموطه * وإنس مجاليه وانس شمائله.