الآيات 41-45
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾
خمس آيات في الكوفي والمدنيين. وفي الباقي أربع آيات. قرأ أبو عمرو وحده " أهلكتها " بالتاء. لقوله في الآية التي فيما بعد (فأمليت) الباقون (أهلكناها) بالنون. يقول الله تعالى (الذين ان مكناهم في الأرض) ف? (الذين) صفه من تقدم ذكره من المهاجرين في سبيل الله، وموضعه النصب، وتقديره (لينصرن الله من ينصره... الذين ان مكناهم) ومعناه أعطيناهم كل ما لا يصح الفعل إلا معه، لان التمكين إعطاء ما يصح معه الفعل، فإن كان هذا الفعل لا يصح إلا بآلة، فالتمكين باعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة، وكذلك إن كان لا يصح الفعل إلا بعلم، ونصب دلالة، وصحة سلامة، ولطف وغير ذلك، فاعطاء جميع ذلك واجب. وإن كان الفعل يكفي - في صحة وجوده - مجرد القدرة، فخلق القدرة هو التمكين. ثم وصفهم. فقال: هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله، (إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) يعني أدوها بحقوقها، وقيل: معناه داموا عليها (وآتوا الزكاة) أي وأعطوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات وغيرها (وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). وفي ذلك دلالة على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، لان ما رغب الله فيه، فقد اراده، وكل ما أراده من العبد، فهو واجب إلا أن يقوم دليل على ذلك أنه نفل، لان الاحتياط يقتضي ذلك. و (المعروف) هو الحق، وسمي معروفا لأنه تعرف صحته. وسمي المنكر منكرا، لأنه لا يمكن معرفة صحته. وقوله " ولله عاقبة الأمور " معناه تصير جميع الاملاك لله تعالى، لبطلان كل ملك سوي ملكه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله مسليا له عن تكذيب قومه له وقلة قبولهم منه: " وان يكذبوك " يا محمد في ما تدعيه من النبوة " فقد كذبت قبلهم قوم نوح " نوحا، وكذبت قوم " عاد " هودا وقوم " ثمود " صالحا " وقوم إبراهيم " إبراهيم " وقوم لوط " لوطا " وأصحاب مدين " شعيبا " وكذب " أصحاب موسى " موسى " وإنما قال " وكذب موسى " ولم يقل وقوم موسى، لان قومه بني إسرائيل، وكانوا آمنوا به وإنما كذبه قوم فرعون " فأمليت للكافرين " اي أخرت عقابهم وحلمت عنهم " ثم أخذتهم " فاستأصلتهم بأنواع الهلاك " فيكف كان نكير " أي عذابي لهم، وإنما اقتصر على ذكر أقوام بعض الأنبياء، ولم يسم أنبياءهم، لدلالة الكلام عليه. ثم قال تعالى " وكأين من قرية " معناه وكم من أهل قرية " أهلكناها " لما استحقوا الاهلاك في حال كونها " ظالمة " لنفسها " فهي خاوية على عروشها " أي أهلكناها في حال كونها ظالمة لنفسها حتى تهدمت الحيطان على السقوف. وقال الضحاك على عروشها سقوفها. وقوله " وبئر معطلة وقصر مشيد " معناه وكم من بئر معطلة أي لا أهل لهاء والتعطيل ابطال العمل بالشئ ولذلك قيل للدهري: معطل، لأنه، أبطل العمل بالعلم على مقتضى الحكمة. ويقال: خوت الدار خواء، ممدود وهي خاوية، وخوى جوف الانسان من الطعام خوى، مقصور، وهو خاو. وقيل في خفض " وبئر معطلة وقصر مشيد " قولان:
أحدهما: بالعطف على قرية، فيكون المعنى إهلاكا كالقرية.
الثاني: بالعطف على العروش، فيكون المعنى ان بها البئر المعطلة والقصر المشيد. ومعنى وقصر مشيد أي مجصص، والشيد الجص - في قول عكرمة ومجاهد - وقال قتادة: معناه رفيع، وهو المرفوع بالشيد. وقال عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كأسا * فللطير في ذراه وكور (1)
وقال امرؤ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة * ولا أجما إلا مشيدا بجندل (2)
وقال آخر: كحية الماء بين الطين والشيد (3) ويقال شدته أشيده إذا زينته. وقال الكلبي قصر مشيد: معناه حصين. وقيل: ان البئر والقصر معروفان باليمين. وفي تفسير أهل البيت إن معنى " وبئر معطلة " أي ولكم من عالم لا يرجع إليه، ولا ينتفع بعلمه، ولا يلتفت إليه. ومعنى الآية: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بكفرهم وأبادهم بمعصيتهم، ليروا من تلك الآثار بيوتا خاوية، قد سقطت على عروشها، وبئر الشرب قد باد أهلها وعطل رساوها وغار معينها وقصرا مشيدا مزينا بالجص، قد خلا من السكن، وتداعي بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله، وبأسه الذي نزل بهم.
1- شرح ديوان امرئ القيس (اخبار المراقسة) 360 وتفسير القرطبي 12 / 74 والطبري 17 / 116 واللسان (شيد).
2- شرح ديوانه: 157 وروايته (أطما) بدل (أجما).
3- تفسير الطبري 17 / 116 والقرطبي 12 / 74 وتمامه: لا تحسبين وان كنت امرءا غمرا * كحية الماء بين الطين والشيد.