الآيات 31-35

قوله تعالى: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾

قوله " حنفاء " نصب على الحال من الضمير في قوله " واجتنبوا قول الزور " ومعنى " حنفاء " مستقيمي الطريقة، على أمر الله. وأصل الحنف الاستقامة. وقيل للمائل القدم: أحنف تفاؤلا بالاستقامة. وقيل: أصله الميل. والحنيف المائل إلى العمل بما أمر الله، والأول أقوى، لأنه أشرف في معنى الصفة. وقوله " غير مشركين به " أي غير مشركين بعبادة الله غيره. والاشراك تضييع حق عباده الله بعبادة غيره. أو ما يعظم عظم عبادة غيره، وكل مشرك كافر، وكل كافر مشرك. ثم قال تعالى " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء " أي من أشرك بعبادة الله غير الله، كان بمنزلة من وقع من السماء، " فتخطفه الطير " أي تتناوله بسرعة وتستلبه. والاختطاف والاستلاب واحد. يقال: خطفه يخطفه خطفا، وتخطفه تخطفا إذا أخذه من كل جهة بسرعة. وقرا ابن عامر " فتخطفه " بتشديد الطاء، بمعنى فتختطفه، فنقل فتحة الطاء إلى الخاء، وأدغم التاء في الطاء. الباقون بالتخفيف، وهو الأقوى لقوله " الا من خطف الخطفة " (1). وقوله (أو تهوي به الريح في مكان سحيق) والسحيق البعيد. والمعنى أن من أشرك بالله غيره كان هالكا بمنزلة من زل من السماء، واستلبه الطير ورمى به الريح في مكان بعيد، فإنه لا يكون إلا هالكا. وقيل: شبه المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا يوم القيامة. وقيل: شبه أعمال الكفار أنها تذهب فلا يقدر على شئ منها - في قول الحسن - وقوله " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " قال سيبويه: تقديره ذلك الامر من يعظم، فالشعائر علامات مناسك الحج كلها، منها رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة وغير ذلك - في قول ابن زيد - وقال مجاهد: هي البدن، وتعظيمها استسمانها واستحسانها. والشعيرة العلامة التي تشعر بها، لما جعلت له، وأشعرت البدن إذا علمتها بما يشعر أنها هدي. وقوله " فإنها من تقوى القلوب " فالكناية في قوله " فإنها " تعود إلى التعظيم. ويجوز أن تعود إلى الخصلة من التعظيم. وقيل: شعائر الله دين الله. وقوله " فإنها من تقوى القلوب " معناه إن تعظيم الشعائر من تقوى القلوب أي من خشيتها. ثم قال " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى " قال ابن عباس، ومجاهد: ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا. وقال عطاء: ما لم يقلد، وقيل: منافعها ركوب ظهرها وشرب ألبانها إذا احتاج إليها. وهو المروي عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله. وقوله " إلى اجل مسمى " قال عطاء بن أبي رياح: إلى أن تنحر. وقيل: المنافع التجارة. وقيل: الاجر، وقيل: جميع ذلك. وهو أعم فائدة. وقوله (ثم محلها إلى البيت العتيق) معناه إن محل الهدي والبدن إلى الكعبة. وعند أصحابنا: إن كان الهدي في الحج، فمحله منى، وإن كان في العمرة المفردة، فمحله مكة قبالة الكعبة بالخرورة. وقيل: الحرم كله محل لها، والظاهر يقتضي أن المحل البيت العتيق، وهو الكعبة. وقال قوم " إلى اجل مسمى " يعني يوم القيامة. ثم اخبر تعالى انه جعل لكل أمة من الأمم السالفة منسكا. وقرأ حمزة والكسائي " منسكا " بكسر العين. الباقون بالفتح، وهما لغتان، وهو المكان للعبادة المألوفة الذي يقصده الناس. وقال الحسن: المنسك المنهاج وهو الشريعة جعل الله لكل أمة من الأمم السالفة منسكا أي شريعة. كقوله " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه " (2) وقال مجاهد " منسكا " يعني عبادة في الذبح، والنسكة الذبيحة. يقال: نسكت الشاة أي ذبحتها فكأنه المذبح، وهو الموضع الذي يذبح فيه. وقال محمد بن أبي موسى: محل المناسك الطواف بالبيت. وقوله " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " أي جعلنا ذلك للأمم وتعبدناهم به " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني من الإبل والبقر والغنم إذا أرادوا تذكيتها. وفي ذلك دلالة على وجوب التسمية عند الذبيحة. ثم اخبر تعالى فقال " فإلهكم إله واحد " أي معبودكم الذي ينبغي أن توجهوا العبادة إليه واحد لا شريك له " فله اسلموا " أي استسلموا " وبشر المخبتين " قال قتادة: يعنى المتواضعين. وقال مجاهد: يعني المطمئنين إلى ذكر ربهم. واشتقاق المخبت من الخبت، وهو المكان المطمئن. وقيل: المنخفض، ومعناهما واحد، ثم وصف تعالى المخبتين، فقال " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " والمعنى إذا ذكر ثواب الله، على طاعاته، وعقابه على معاصيه، خافوا عقابه وخشيوا من ترك طاعاته " والصابرين على ما أصابهم " يعني يصبرون على ما يبتليهم الله، من بلائه في دار الدنيا من أنواع المصائب والأمراض والأوجاع " والمقيمي الصلاة " يعني الذين يقيمون الصلاة، فيؤدونها بحقوقها، ويداومون عليها. " ومما رزقناهم ينفقون " أي مما ملكهم الله وجعل لهم التصرف فيه ينفقون في مرضاته. وفى ذلك دلالة على أن الحرام ليس برزق الله. لان الله مدح من ينفق في سبيل الله مما رزقه، والحرام ممنوع من التصرف فيه، والانفاق منه فكيف يكون رزقا.


1- سورة 22 الحج آية 67.

2- لم أجد في مظانه.