الآيات 26-30
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله واذكر يا محمد " إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " ومعناه جعلنا له علامة يرجع إليها. وقال قوم: معنى بوأنا وطأنا له. وقال السدي: كانت العلامة ريحا هبت، فكشف حول البيت، يقال لها الحجوج. وقال قوم: كانت: سحابة تطوقت حيال الكعبة، فبنى على ظلها. واصل بوأنا من قوله " باؤا بغضب من الله " أي رجعوا بغضب منه. ومنه قول الحارث بن عباد (بؤ بشسع كليب) أي ارجع، قال الشاعر:
فان تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف ابن عامر (1)
اي قد رجع بعضها ببعض في تكافئ. وتقول: بوأته منزلا أي جعلت له منزلا يرجع إليه، والمكان والموضع والمستقر نظائر. والبيت مكان مهيأ بالبناء للبيتوتة، فهذا أصله. وجعل البيت الحرام على هذه الصورة. وقوله " ألا تشرك بي شيئا " معناه وأمرناه ألا تشرك بي شيئا في العبادة (وطهر بيتي) قال قتادة: يعني من عبادة الأوثان. وقيل: من الأدناس. وقيل من الدماء، والفرث، والأقذار التي كانت ترمى حول البيت، ويلطخون به البيت إذا ذبحوا. وقوله (للطائفين) يعني حول البيت (والقائمين والركع السجود) يعني طهر حول البيت للذين يقومون هناك للصلاة والركوع والسجود. وقال عطاء: والقائمين في الصلاة. وإذا قال: طاف، فهو من الطائفين، وإذا قعد، فهو من العكف، وإذا صلى، فهو من الركع السجود. وفى الآية دلالة على جواز الصلاة في الكعبة. وقوله (وأذن في الناس بالحج) قال الحسن: والجبائي: هو أمر للنبي صلى الله عليه وآله أن يؤذن للناس بالحج ويأمرهم به، وانه فعل ذلك في حجة الوداع. وقال ابن عباس: ان إبراهيم قام في المقام، فنادى (يا أيها الناس إن الله قد دعاكم إلى الحج) فأجابوا (بلبيك اللهم لبيك). وقوله (يأتوك رجالا) أي مشاة على أرجلهم، فرجال جمع رجال مثل صاحب وصحاب، وقائم وقيام (وعلى كل ضامر) أي على كل جمل ضامر، وهو المهزول، أضمره السير (من كل فج عميق) أي طريق بعيد، قال الراجز: يقطعن بعد النازح العميق وإنما قال (يأتين) لأنه في معنى الجمع. وقيل: لان المعنى وعلى كل ناقة ضامر. وقوله (ليشهدوا منافع لهم) قيل الأجر والثواب في الآخرة، والتجارة في الدنيا. وقال أبو جعفر (ع): المغفرة. وقوله (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قال الحسن وقتادة: الأيام المعلومات عشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات أيام التشريق. وقال أبو جعفر (ع) الأيام المعلومات أيام التشريق، والمعدودات العشر، لان الذكر الذي هو التكبير في أيام التشريق. وإنما قيل لهذه الأيام: معدودات، لقلتها. وقيل لتلك: معلومات، للحرص على علمها بحسابها، من أجل وقت الحج في آخرها. وقوله (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) يعني مما يذبح من الهدي. وقال ابن عمر: الأيام المعلومات أيام التشريق، لان الذبح فيها الذي قال الله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). وقوله (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) قال مجاهد وعطاء: أمرنا بأن نأكل من الهدي. وليس بواجب. وهو الصحيح، غير أنه مندوب إليه. والبائس الذي به ضر الجوع، والفقير الذي لا شئ له، يقال: بؤس فهو بائس إذا صار ذا بؤس، وهو الشدة. أمر الله تعالى أن يعطى هؤلاء من الهدي. وقوله " ثم ليقضوا تفثهم " فالنفث مناسك الحج، من الوقوف، والطواف، والسعي، ورمي الجمار، والحلق بعد الاحرام من الميقات. وقال ابن عباس وابن عمر: التفث جمع المناسك. وقيل التفث قشف (2) الاحرام، وقضاؤه بحلق الرأس، والاغتسال، ونحوه. قال الأزهري: لا يعرف التفث في لغة العرب إلا من قول ابن عباس. وقوله " وليوفوا نذورهم " أي يوفوا بما نذروا، من نحر البدن - في قول ابن عباس - وقال مجاهد: كل ما نذر في الحج. وقرأ أبو بكر عن عاصم " وليوفوا " مشدة الفاء، ذهب إلى أنه التكبير. وقوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " أمر من الله تعالى بالطواف بالبيت. قال ابن زيد: سمي البيت عتيقا، لأنه أعتق من أن تملكه الجبابرة عن آدم. وقيل: لأنه أول بيت بني. كقوله تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " (3) ثم حدده إبراهيم (ع). وقيل: لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان، فغرقت الأرض كلها إلا موضع البيت، روي عن أبي جعفر (ع). والطواف المأمور به من الله في هذه الآية، قال قوم: هو طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر، وإما بعده، وهو طواف الزيارة، وهو ركن بلا خلاف. وروى أصحابنا ان المراد - ههنا - طواف النساء الذي يستباح به وطؤ النساء، وهو زيادة على طواف الزيارة. وقوله " ذلك ومن يعظم حرمات الله " بأن يترك ما حرمه الله. وقوله " وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم " يعني إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب. وقيل: وأحلت لكم الانعام، من الإبل، والبقر، والغنم، في حال إحرامكم " إلا ما يتلى عليكم " من الصيد، فإنه يحرم على المحرم. وقوله " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " معنى (من) لتبيين الصفة، والتقدير فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وروى أصحابنا أن المراد به اللعب بالشطرنج، والنرد، وسائر أنواع القمار " واجتنبوا قول الزور " يعني الكذب. وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية بغير حق.
1- وفي المخطوطة فشق).
2- سورة 3 آل عمران آية 96.
3- سورة 37 الصافات آية 10.