الآيات 17-22
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
اقسم الله تعالى لان (إن) يتلقى بها القسم، فاسم تعالى " إن الذين آمنوا " بالله وصدقوا بوحدانيته وصدقوا أنبياءه " والذين هادوا " يعني اليهود " والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا " مع الله غيره " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " فخبر " ان الذين آمنوا " قوله " إن الله يفصل " فدخل (إن) على الخبر تأكيدا، كما يقول القائل: إن زيدا إن الخبر عنده لكثير، وقال جرير:
إن الخليفة ان الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم (1)
وقال الفراء لا يجوز أن تقول: إن زيدا انه صائم لاتفاق الاسمين. قال الزجاج: يجوز ذلك، وهو جيد بالغ. ومعنى قوله " يفصل بينهم " يعني إن الله يفصل بين الخصوم في الدين يوم القيامة بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح ويبيض وجه المحق، ويسود وجه المبطل. والفصل هو التمييز بين الحق والباطل. وإظهار أحدهما من الآخر. وقوله " إن الله على كل شئ شهيد " أي عالم بما من شأنه أن يشاهد، فالله تعالى يعلمه قبل أن يكون، لأنه علام الغيوب. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين فقال " ألم تر " ومعناه ألم تعلم " أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض " من العقلاء. ويسجد له " الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب " فسجود الجماد هو ما فيه من ذلة الخضوع التي تدعو العارفين إلى السجود، سجود العبادة لله المالك للأمور، وسجود العقلاء هو الخضوع له تعالى والعبادة له. وقوله " من في السماوات ومن في الأرض " وإن كان ظاهره العموم، فالمراد به الخصوص إذا حملنا السجود على العبادة والخضوع، لأنا علمنا أن كثيرا من الخلق كافرون بالله تعالى. فلذلك قال (وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) ارتفع (كثير) بفعل مقدر، كأنه قال (وكثير) أبي السجود، ف? (حق عليه العذاب) دل عليه، لأنهم يستحقون العقاب بجحدهم وحدانية الله، وإشراكهم معه غيره. وقيل: سجود كل شئ - سوى المؤمنين - سجود ظله حين تطلع الشمس وحين تغيب - في قول مجاهد - كأنه يجعل ذلك لما فيه من العبرة بتصريف الشمس في دورها عليه سجودا. وقوله (وكثير حق عليه العذاب) يعني لابائه السجود. وقيل: بل هو يسجد بما يقتضيه عقله من الخضوع، وإن كفر بغير ذلك من الأمور، وأنشدنا في السجود بمعنى الخضوع قول الشاعر:
بجمع تضل البلق في حجراته * ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (2)
وقوله (ومن يهن الله فما له من مكرم) معناه من يهنه الله بالشقوة بادخاله جهنم (فما له من مكرم) بالسعادة بادخاله الجنة، لأنه الذي يملك العقوبة والمثوبة (ان الله يفعل ما يشاء) يعني يكرم من يشاء، ويهين من يشاء إذا استحق ذلك. وقوله (هذان خصمان) يعنى الفريقين من المؤمنين والكفار يوم بدر، وهم حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن أبي ربيعة، وعلي بن أبي طالب (ع) قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحارث قتل شيبة بن ربيعة - في قول أبي ذر - وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب، وأهل القرآن. وقال الحسن ومجاهد وعطاء: هم المؤمنون والكافرون " اختصموا في ربهم " لان المؤمنين قالوا بتوحيد الله وأنه لا يستحق العبادة سواه. والكفار أشركوا معه غيره، وإنما جمع قوله " اختصموا " لأنه أراد ما يختصون فيه أو أراد بالخصمين القبيلتين وخصومهم. ثم قال تعالى " فالذين كفروا " بالله وجحدوا وحدانيته " قطعت لهم ثياب من نار " ومعناه إن النار تحيط بهم كإحاطة الثياب التي يلبسونها. و " يصب من فوق رؤسهم الحميم " روي في خبر مرفوع: انه يصب على رؤسهم الحميم، فينفذ إلى أجوافهم فيسلب ما فيها. والحميم الماء المغلي. وقيل: ثياب نحاس من نار تقطع لهم، وهي أشد ما يكون حمى. وقوله " يصهر به ما في بطونهم والجلود " فالصهر الإذابة. والمعنى يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤسهم ما في بطونهم من الشحوم وتساقط من حره الجلود. تقول: صهرت الالية بالنار إذا أذبتها، أصهرها صهرا قال الشاعر:
تروي لقى ألقي في صفصف * تصهره الشمس فما ينصهر (3)
يعني ولدها، وتروي معناه أن تحمل له الماء في حوصلتها، فتصير له رواية كالبعير الذي يحمل عليه الماء، يقال: رويت للقوم إذا حملت لهم الماء. واللقي كل شئ ملقى من حيوان أو غيره، وقال الآخر: شك السفافيد الشواء المصطهر وقوله تعالى " ولهم مقامع من حديد " فالمقامع جمع مقمعة، وهي مدقة الرأس ومثله المنقفة، قمعه قمعا إذا ردعه عن الامر. فالزبانية بأيديهم عمد من حديد يضربون بها رؤسهم إذا أرادوا الخروج من النار من الغم الذي يلحقهم، والعذاب الذي ينالهم ردوا بتلك المقاطع فيها وأعيدوا إلى حالتهم التي كانوا فيها من العقاب. وقيل: يرفعهم زفيرها حتى إذا كادوا أن يخرجوا منها ضربوا بالمقامع، حتى يهووا فيها. وقيل: لهم ذوقوا عذاب الحريق، فالذوق طلب ادراك الطعم، فهو أشد لاحساسه عند تفقده وطلب ادراك طعمه. فأهل النار يجدون ألمها وجدان الطالب لا دراك الشئ، والحريق الغليظ من النار المنتشر العظيم الاهلاك. وقيل: هو بمعنى محرق كأليم بمعنى مؤلم، فهؤلاء أحد الخصمين، والآخرون هم المؤمنون الذين وصفهم في الآية بعدها.
1- انظر 1 / 311 تعليقة 5.
2- تفسير القرطبي 12 / 27 والطبري 17 / 92 وللسان (صهر) نسبه لابن أحمر.
3- سورة 43 الزخرف آية 3.