الآيات 11-16

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ، وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأبو عمرو، ورويس، وورش " ثم ليقطع " ثم " ليقضوا " (1) - بسكون اللام - فيهما، ووافقهم قنبل في " ثم ليقضوا ". الباقون بسكون اللام. معنى قوله " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي في الناس من يوجه عبادته إلى الله على ضعف في العبادة، كضعف القيام على حرف جرف، وذلك من اضطرابه في استيفاء النظر المؤدي إلى المعرفة. فأدنى شبهة تعرض له ينقاد لها، ولا يعمل في حلها. والحرف والطرف والجانب نظائر. والحرف منتهى الجسم، ومنه الانحراف الانعدال إلى الجانب. وقلم محرف قد عدل بقطعته عن الاستواء إلى جانب، وتحريف القول هو العدول به عن جهة الاستواء، فالحرف معتدل إلى الجانب عن الوسط. وقال مجاهد: معنى على حرف شك. وقال الحسن: يعبد الله على حرف يعني المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. وقيل على حرف الطريقة لا يدخل فيها على تمكين. وقوله " فان أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه " قال ابن عباس: كان بعضهم إذا قدم المدينة فان صح جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن إليه، وإن اصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، قال ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا شرا. وكل ذلك من عدم البصيرة. وقيل: انها نزلت في بني أسد كانوا نزلوا حول المدينة. و (الفتنة) - ههنا - معناه المحنة بضيق المعيشة، وتعذر المراد من أمور الدنيا. ثم اخبر الله تعالى أن من هذه صفته على خسران ظاهر، لأنه يخسر الجنة، وتحصل له النار. ثم اخبر عن ذكره انه " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه " يعني الأصنام والأوثان، لأنها جماد لا تضر ولا تنفع، فإنه يعبدها دون الله. ثم قال تعالى " ذلك هو الضلال البعيد " يعني عبادة مالا يضر ولا ينفع من العدول عن الصواب، والانحراف عن الطريقة المستقيمة إلى البعيد عن الاستقامة. و " ذلك " في موضع نصب ب? (يدعو) ومعناه (الذي) كأنه قال: الذي هو الضلال البعيد يدعوه. وقوله " يدعو لمن " مستأنف على ما ذكره الزجاج. وقوله " يدعو لمن ضره أقرب من نفعه " يعني يدعوا هذه الأصنام التي ضررها أقرب من نفعها، لان الضرر بعبادتها عذاب النار، والنفع ليس فيها. وإنما جاز دخول اللام في " لمن ضره " لان (يدعو) معلقة، وإنما هي تكرير للأولى، كأنه قال: يدعو - للتأكيد - للذي ضره أقرب من نفعه يدعو. ثم حذفت (يدعو) الأخيرة اجتزاء بالأولى. ولا يجوز قياسا على ذلك ضربت لزيد، ولو قلت بدلا من ذلك يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب، ثم حذفت الخبر جاز. والعرب تقول عندي لما غيره هو خير منه، كأنه قال للذي غيره خير منه عندي، ثم حذف الخبر من الثاني، والابتداء من الأول، كأنه قال عندي شئ غيره خير منه وعلى هذا يقال: أعطيك لما غيره خير منه، على حذف الخبر. وقيل: في خبر (لمن ضرره) أنه (لبئس المولى). وقيل: يدعو بمعنى يقول. والخبر محذوف. وتقديره يقول لمن ضره أقرب من نفعه: هو آلهة، قال عنترة:

يدعون عنتر والرماح كأنها * أشطان بئر في لبان الأدهم (2)

اي يقولون يا عنتر، وقيل تقدر اللام التأخر، وإن كانت متقدمة. والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه. وقوله " لبئس المولى ولبئس العشير " فالمولى هو الولي، وهو الناصر الذي يولي غيره نصرته إلا أنها نصرة سوء، والعشير الصاحب المعاشر أي المخالط - في قول ابن زيد - وقال الحسن: المولى - ههنا - الولي. وقيل: ابن العم اي بئس القوم لبني عمهم بما يدعونهم إليه من الضلال. وقيل: اللام لام اليمين، والتقدير يدعو وعزتي لمن ضره أقرب من نفعه. ثم اخبر تعالى انه " يدخل الذين آمنوا " بالله وأقروا بوحدانيته وصدقوا رسله " وعملوا " الاعمال " الصالحات " التي أمرهم بها " جنات " أي بساتين " تجري من تحتها الأنهار ان الله يفعل ما يريد " من ذلك لا اعتراض عليه في ذلك. ثم قال " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظرها يذهبن كيده ما يغيظ " فالهاء في قوله " ينصره الله " قال ابن عباس وقتادة: عائدة إلى النبي صلى الله عليه وآله، والمعنى من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ولا يعينه على عدوه، ويظهر دينه فليمت غيظا. والنصرة المعونة - في قول قتادة - وقال مجاهد والضحاك: أن الكناية عائدة إلى (من) والمعنى إن من ظن أن لا ينصره الله. وقال ابن عباس: النصرة - ههنا - الرزق. والمعنى من ظن أن الله تعالى لا يرزقه، والعرب تقول: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. وقال الفقعسي:

وإنك لا تعط امرءا فوق حظه * ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره (3)

اي معطيه وجايده، ويقال نصر الله أرض فلان أي جاد عليها بالمطر وقوله " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع " قيل في معنى (المساء) قولان:

أحدهما: قال ابن عباس: أراد سقف البيت. والسبب الحبل.

وقال ابن زيد: إلى السماء سماء الدنيا والسبب المراد به الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله " ثم ليقطع " الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله والمعنى من ظن أنه لا يرزقه الله على وجه السخط لما اعطى " فليمدد " بحبل إلى سماء بيته واضعا له في حلقه، على طريق كيد نفسه ليذهب غيظه به. وهذا مثل ضربه الله لهذا الجاهل. والمعنى مثله مثل من فعل بنفسه هذا، فما كان إلا زائدا في بلائه وقيل: هذا مثل رجل وعدته وعدا، ووكدت على نفسك الوعد، وهو يراجعك. لا يثق بقولك له، فتقول له: فاهب فاختنق، يعني اجهد جهدك فلا ينفعك، وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين نفروا من اتباع النبي صلى الله عليه وآله خيفة من المشركين يخشون أن لا يتم له أمره. وقرأ ابن مسعود " يدعو من ضره أقرب من نفعه " بلا لام. الباقون باثبات اللام، ووجهه أن (من) كلمة لا يبين فيها الاعراب فاستجازوا الاعتراض باللام دون الاسم الذي يبين فيه الاعراب، ولذلك قالت العرب: عندي لما غيره خير منه. وقد يجوز أن يكون (يدعو) الثانية من صلة الضلال البعيد، ويضمر في يدعو الهاء ثم يستأنف الكلام باللام. ولو قرئ بكسر اللام كان قويا. قال الفراء: كأن يكون المعنى يدعو إلى ما ضره أقرب من نفعه، كما قال تعالى " الحمد لله الذي هدانا لهذا " (4) أي إلى هذه إلا أنه لم يقرأ به أحد. وقوله " وكذلك أنزلناه " اي مثل ما ذكرنا من الأدلة الواضحة أنزلناه " آيات " واضحات، لان " الله يهدي من يريد " منه فعل الطاعات ويدله عليها.


1- ديوانه (دار بيروت) 29 من معلقته.

2- تفسير القرطبي 12 / 22 والطبري 17 / 87.

3- سورة 7 الأعراف آية 42.

4- ديوانه (دار بيروت) 431 وروايته: (يكفي الخليفة).