الآيات 106-112
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ، قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾
يقول الله تعالى " إن في هذا " المعنى الذي أخبرتكم به، مما توعدنا به الكفار، من النار والخلود فيها، وما وعدنا به المؤمنين من الجنة والكون فيها " لبلاغا " وقيل: " ان في هذا " يعني القرآن " لبلاغا " أي لما يبلغ إلى البغية من أخذ به، وعمل عليه. والبلوغ الوصول. والبلاغ سبب الوصول إلى الحق، ففي البرهان بلاغ، والقرآن دليل وبرهان. وقيل: معناه إنه يبلغ رضوان الله ومحبته وجزيل ثوابه " لقوم عابدين " لله مخلصين له. ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله (وما أرسلناك) يا محمد (إلا رحمة للعالمين) أي نعمة عليهم، ولان ترحمهم. وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة في أنه: ليس لله على الكافرين نعمة. لأنه تعالى بين ان إرسال الله رسوله نعمة على العالمين. وعلى كل من أرسل إليهم. ووجه النعمة على الكافر انه عرضه للايمان ولطف له في ترك معاصيه. وقيل: هي نعمة على الكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم قبلهم من الخسف والقذف - في قول ابن عباس - ثم قال له صلى الله عليه وآله قل لهم (إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) اي مسلمون لهذا الوحي الذي أوحي إلي، من اخلاص الإلهية والعبادة لله تعالى. ثم قال (فان تولوا) يعني إن اعرضوا عن هذا الذي تدعوهم إليه من إخلاص التوحيد، فقل لهم (آذنتكم على سواء) أي أعلمتكم على سواء في الايذان تتساوون في العلم به لم اظهر بعضكم على شئ كتمته عن غيره، وهو دليل على بطلان قول أصحاب الرموز، وأن للقرآن بواطن خص بالعلم بها أقوام. وقيل على سواء (في العلم اني صرت مثلكم، ومثله قوله " فانبذ إليهم على سواء) (1) أي ليستوي علمك وعلمهم. وقيل معناه: لتستووا في الايمان به. وقوله (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) معناه لست اعلم أن ما وعدكم الله به من العقاب أقريب مجيؤه أم بعيد. وقوله (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) اي لست أدري لعل التأخير شدة في عبادتكم يظهر بها ما هو كالسر فيكم من خير أو شر، فيخلص الجزاء بحسب العمل. واصل الفتنة التخليص بالشدة، كتخليص الذهب بشدة النار من كل شائب من غيره. وقيل (فتنة لكم) اي اختبار لكم (ومتاع إلى حين) أي تتمتعون إلى الوقت الذي قدره الله لاهلاككم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قل) يا محمد (رب احكم بالحق) إنما أمره أن يدعو بما يعلم أنه لابد أن يفعله تعبدا، لأنه إذا دعا بهذا ظهرت رغبته في الحق الذي دعا به. وقال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا شهد قتالا قال (رب احكم بالحق) بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع. وقرأ حفص وحده (قال رب أحكم) على الخبر. الباقون على الامر، وضم الباء أبو جعفر اتباعا لضم الكاف. الباقون بكسرها على أصل حركة التقاء الساكنين. وقوله (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) أي على ما تذكرون، مما ينافي التوحيد. وحكي عن الضحاك انه قرأ (قال ربي أحكم) باثبات الياء، وهو خلاف ما في المصاحف، ويكون على هذا (ربي) مبتدأ و (أحكم) خبره، كقوله (الله أحسن الخالقين) (2). وقرا ابن ذكران عن ابن عامر (عما يصفون) بالياء يعني على ما يكذب هؤلاء الكفار من انكار البعث. الباقون بالتاء على الخطاب لهم بذلك.
1- سورة 13 المؤمنين آية 14.
2- تفسير الطبري 17 / 80.