الآيات 31-35

قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾

المعنى:

قال المبرد: معنى " أن تميد " أي منع الأرض " أن تميد " أي لهذا خلقت الجبال. ومثله قوله " أن تضل إحداهما " (1) والمعنى عدة أن تضل أحداهما، كقول القائل: أعددت الخشبة أن يميل الحائل فأدعمه. وهو لم يعدها ليميل الحائط، وإنما جعلها عدة، لان يميل، فيدعم بها. يقول الله تعالى انا " جعلنا في الأرض رواسي " وهي الجبال، واحدها راسية يقال: رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها، وهي راسية. كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها " أن تميد بكم " معناه ألا تعيد بكم، كما قال " يبين الله لكم أن تضلوا " (2) والمعنى ألا تضلوا. وقال الزجاج: معناه كراهة أن تميد بكم. والميد الاضطراب، بالذهاب في الجهات، يقال: ماد يميد ميدا، فهو مائد. وقيل: إن الأرض كانت تميد وترجف، رجوف السفينة بالوطئ، فثقلها الله تعالى بالجبال الرواسي - لتمتنع من رجوفها. والوجه في تثقيل الله تعالى الأرض بالرواسي مع قدرته على امساك الأرض أن تميد، ما فيه من المصلحة والاعتبار، وكان ابن الاخشاذ يقول: لو لم يثقل الله الأرض بالرواسي لأمكن العباد أن يحركوها بما معهم من القدر، فجعلت على صفة ما لا يمكنهم تحريكها. وقال قتادة: تميد بهم معناه تمور، ولا تستقر بهم. وقوله " وجعلنا فيها فجاجا " يعني في الأرض طرقا، والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقوله " لعلكم تهتدون " أي لكي تهتدوا فيه إلى حوائجكم ومواطنكم، وبلوغ أغراضكم. ويحتمل أن يكون المراد لتهتدوا، فتستدلوا بذلك على توحيد الله وحكمته. وقال ابن زيد: معناه ليظهر شكركم، فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون. وقوله " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " وإنما ذكرها، لأنه أراد السقف، ولو أنث كان جائزا. وقيل: حفظها الله من أن تسقط على الأرض. وقيل: حفظها من أن يطمع أحد ان يتعرض لها بنقض، ومن أن يلحقها ما يلحق غيرها من الهدم أو الشعث، على طول الدهر. وقيل: هي محفوظة من الشياطين بالشهب التي يرجمون بها. وقوله " وهم عن آياتها معرضون " اي هم عن الاستدلال بحججها وأدلتها، على توحيد الله معرضون. ثم قال تعالى مخبرا، بأنه " هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر " وأخبر ان جميع ذلك " في فلك يسبحون " فالفلك هو المجرى الذي تجري فيه الشمس والقمر، بدورانها عليه - في قول الضحاك - وقال قوم: هو برج مكفوف تجريان فيه. وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل. والفلك في اللغة كل شئ دائر، وجمعه أفلاك قال الراجز:

باتت تناصي الفلك الدوارا * حتى الصباح تعمل الاقتارا (3)

ومعنى " يسبحون " يجرون - في قول ابن جريج - وقال ابن عباس " يسبحون " بالخير والشر، والشدة والرخاء. وإنما قال " يسبحون " على فعل ما يعقل، لأنه أضاف إليها الفعل الذي يقع من العقلاء، كما قال " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " (4) وقال " ولقد علمت ما هؤلاء ينطقون "، (5) وقال النابغة الجعدي:

تمززتها والديك يدعو صباحه * إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا (6)

وقوله " كل في فلك يسبحون " أراد الشمس والقمر والنجوم، لان قوله " الليل " دل على النجوم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله و " ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " أي البقاء دائما في الدنيا " أفإن مت فهم الخالدون " اي لم يجعل لهم الخلود، حتى لو مت أنت لبقوا أولئك مخلدين، بل ما أولئك مخلدين. ثم أكد ذلك، وبين بأن قال " كل نفس ذائقة الموت " والمعنى لابد لكل نفس حية بحياة أن يدخل عليها الموت، وتخرج عن كونها حية. وإنما قال (ذائقة) لان العرب تصف كل أمر شاق على النفس بالذوق كما قال " ذق انك أنت العزيز الكريم " (7). وقال الفراء: إذا كان اسم الفاعل لما مضى جازت الإضافة، وإذا كان للمستقبل، فالاختيار التنوين، ونصب ما بعده. ثم قال تعالى " ونبلوكم " اي نختبركم معاشر العقلاء بالشر والخير، يعني بالمرض والصحة. والرخص والغلاء، وغير ذلك من أنواع الخير والشر " فتنة " أي اختبارا مني لكم، وتكليفا لكم. ثم قال " والينا ترجعون " يوم القيامة، فيجازى كل انسان على قدر عمله. ودخلت الفاء في قوله " أفإن " وهي جزاء، وفى جوابه، لان الجزاء متصل بكلام قبله. ودخلت في (فهم) لأنه جواب الجزاء، ولو لم يكن في (فهم) الفاء، كان جائزا على وجهين:

أحدهما: أن تكون مرادة، وقد حذفت.

والآخر: أن تكون قد قدمت على الجزاء، وتقديره (أفهم الخالدون) إن مت.


1- تفسير الطبري 17 / 16.

2- سورة 12 يوسف آية 4.

3- سورة 21 الأنبياء آية 65.

4- هو في مجمع البيان 4 / 46.

5- سورة 44 الدخان آية 49.

6- ديوانه: 33.

7- تفسير القرطبي 11 / 289 والشوكاني 3 / 394 وروايته: (والنبع في الصخرة الصماء منبتة.....