الآيات 6-10
قوله تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
القراءة:
قرأ عاصم " نوحي " بالنون. الباقون - بالياء - على ما لم يسم فاعله. من قرأ بالنون أراد الاخبار من الله تعالى عن نفسه، بدلالة قوله " وما أرسلنا " لان النون والألف اسم الله. لما حكى الله تعالى ما قال الكفار في القرآن، الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله من أنهم قالوا تارة: هو أضغاث أحلام، يريدون أقاويله، وتارة قالوا: بل اختلقه وافتعله. وتارة قالوا: هو شاعر، لتحيرهم في امره. ثم قالوا (فليأتنا بآية) غير هذا على ما يقترحونها (كما أرسل) الأنبياء (الأولون) بمثلها، فقال الله تعالى (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها افهم يؤمنون) اي انا أظهرنا الآيات التي اقترحوها على الأمم الماضية، فلم يؤمنوا عندها، فأهلكناهم، فهؤلاء أيضا لا يؤمنون لو أنزلنا ما أرادوه. وأراد الله بهذا الاحتجاج عليهم ان يبين ان سبب مجئ الآيات ليس لأنه سبب يؤدي إلى ايمان هؤلاء، وإنما مجيئها لما فيها من اللطف والمصلحة، بدلالة انها لو كانت سببا لايمان هؤلاء لكانت سببا لايمان أولئك، فلما بطل أن تكون سببا لايمان أولئك، بطل أن تكون سببا لايمان هؤلاء على هذا الوجه. وقيل: ان معناه إنا لما أظهرنا الآيات التي اقترحوها على الأمم الماضية، فلم يؤمنوا أهلكناهم، فلو أظهرنا على هؤلاء مثلها لم يؤمنوا وكانت تقتضي المصلحة ان نهلكهم. ومثله قوله (وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة) (1) وقال الفراء: المعنى ما آمنت قبلهم أمة جاءتهم آية، فكيف يؤمن هؤلاء!. ثم اخبر تعالى انه لم يرسل قبل نبيه محمد صلى الله عليه وآله إلى الأمم الماضية (إلا رجالا يوحى إليهم) ووجه الاحتجاج بذلك انه لو كان يجب أن يكون الرسول إلى هؤلاء الناس من غير البشر، كما طلبوه، لوجب أن يكون الرسول إلى من تقدمهم من غير البشر، فلما صح إرسال رجال إلى من تقدم، صح إلى من تأخر. وقال الحسن: ما ارسل الله امرأة، ولا رسولا من الجن، ولا من أهل البادية. ووجه اللطف في إرسال البشر ان الشكل إلى شكله آنس. وعنه افهم ومن الانفة منه ابعد، لأنه يجري مجرى النفس، والانسان لا يأنف من نفسه. ثم قال هلم " فاسألوا أهل الذكر " عن صحة ما أخبرتكم به من أنه لم يرسل إلى من تقدم إلا الرجال من البشر. وفى الآية دلالة على بطلان قول ابن حائط: من أن الله تعالى بعث إلى البهائم والحيوانات كلها رسلا. واختلفوا في المعني بأهل الذكر، فروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (نحن أهل الذكر) ويشهد لذلك أن الله تعالى سمى نبيه ذكرا بقوله " ذكرا رسولا " (2) وقال الحسن: وقتادة: هم أهل التوراة والإنجيل. وقال ابن زيد: أراد أهل القرآن، لان الله تعالى سمى القرآن ذكرا في قوله " انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (3) وقال قوم: معناه واسألوا أهل العلم باخبار من مضى من الأمم هل كانت رسل الله رجالا من البشر أم لا؟. وقيل في وجه الامر بسؤال الكفار عن ذلك قولان:
أحدهما: انه يقع العلم الضروري بخبرهم إذا كانوا متواترين، وأخبروا عن مشاهدة، هذا قول الجبائي.
الثاني: ان الجماعة الكثيرة إذا أخبرت عن مشاهدة حصل العلم بخبرها إذا كانوا بشروط المتواترين وإن لم يوجب خبرهم العلم الضروري. وقال البلخي: المعنى انك لو سألتهم عن ذلك لأخبروك أنا لم نرسل قبلك إلا رجالا. وقال قوم: أراد من آمن منهم. ولم يرد الامر بسؤال غير المؤمن. ثم اخبر تعالى انه لم يبعث رسولا ممن أرسله إلا وكان مثل سائر البشر يأكل الطعام، وانه لم يجعلهم مثل الملائكة لا يأكلون الطعام، وأنهم مع ذلك لم يكونوا خالدين مؤبدين، بل كان يصيبهم الموت والفناء كسائر الخلق. وإنما وحد " جسدا " لأنه مصدر يقع على القليل والكثير، كما لو قال: وما جعلناهم خلقا. ثم قال تعالى " ثم صدقناهم الوعد " يعني الأنبياء الماضين ما وعدناهم به من النصر والنجاة، والظهور على الاعداء، وما وعدناهم به من الثواب، فأنجيناهم من أعدائهم، ومعهم من نشاء من عبادنا، وأهلكنا المسرفين على أنفسهم، بتكذيبهم للأنبياء. وقال قتادة: المسرفون هم المشركون. والمسرف الخارج عن الحق إلى ما تباعد عنه. يقال: اسراف إسرافا إذا جاوز حد الحق وتباعد عنه. ثم اقسم تعالى بقوله " لقد أنزلنا إليكم "، لأن هذه اللام يتلقى بها القسم، بأنا أنزلنا عليكم " كتابا " يعني القرآن (فيه ذكركم) قال الحسن: معناه فيه ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. وقيل: فيه شرعكم إن تمسكتم به، وعملتم بما فيه. وقيل: ذكر، لما فيه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الافعال (أفلا تعقلون) يعني أفلا تتدبرون، فتعلموا أن الامر على ما قلناه.
1- سورة 15 الحجر آية 9.
2- تفسير الطبري 17 / 9.
3- انظر 6 / 69.