الآيات 96-100

قوله تعالى: ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إلى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي " ما لم تبصروا " بالتاء. الباقون بالياء المعجمة من أسفل. من قرأ بالتاء حمله على خطابه لجميعهم. ومن قرأ بالياء أراد: بصرت بما لم يبصروا بنو إسرائيل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " لن تخلفه " بكسر اللام. الباقون بفتح اللام. والمعنى: لان الله يكافيك على ما فعلت يوم القيامة، لأنه بذلك وعد. يقال: أخلفت موعد فلان إذا لم تف بما وعدته. ومن قرأ - على ما لم يسم فاعله - جعل الخلف من غير المخاطب، والهاء كناية عن الموعد، وهو المفعول به، والفاعل لم يذكر. حكى الله تعالى قول موسى للسامري وسؤاله إياه بقوله " ما خطبك يا سامري " وحكى ما أجاب به السامري، فإنه قال " بصرت بما لم يبصروا به " والمعنى رأيت ما لم يروه. فمن قرأ بالياء أراد ما لم يبصروا هؤلاء. ومن قرأ بالتاء حمله على الخطاب وبصرا لا يتعدى، وإن كانت الرؤية متعدية، لان ما كان على وزن (فعل) بضم العين لا يتعدى. غير أنه وإن كان غير متعد، فإنه يتعدى بحرف الجر، كما عداه - ههنا - بالباء. وقيل بصرت - ههنا - بمعنى علمت من البصيرة. يقال: بصر يبصر إذا علم. وابصر ابصارا إذا رأى. وقوله " فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها " قرأ الحسن بالصاد غير المعجمة. والقراء على القراءة بالضاد المنقطة، والفرق بينهما ان (القبضة) بالضاد بملئ الكف، وبالصاد غير المعجمة بأطراف الأصابع، وقيل: انه قبض قبضة من اثر جبرائيل (ع) " فنبذتها " في الحلي على ما أطمعتني نفسي من انقلابه حيوانا. وقال ابن زيد: معنى " سولت لي نفسي " حدثتني. وقيل: معناه زينت لي نفسي. فان قيل: لم جاز انقلابه حيوانا - مع أنه معجز - لغير نبي ؟! قلنا: في ذلك خلاف، فمنهم من قال: انه كان معلوما معتادا في ذلك الوقت انه من قبض من اثر الرسول قبضة فألقاها على جماد صار حيوانا - ذكره أبو بكر ابن الاخشاذ - فعلى هذا لا يكون خرق عادة بدل بل كان معتادا. وقال الحسن: صار لحما ودما. وقال الجبائي: المعنى سولت له نفسه مالا حقيقة له وإنما خار بحيلة: جعلت فيه خروق إذا دخلتها الريح سمع له خوار منه. فقال له موسى عند ذلك " فاذهب " يا سامري " فان لك في الحياة أن تقول لامساس " واختلفوا في معناه، فقال قوم: معناه تقول لا أمس ولا أمس، وكان موسى امر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه، فيما ذكر. وقال الجبائي: معناه انه لا مساس لاحد من الناس، لأنه جعل يهيم في البرية مع الوحش والسباع. وقوله " لامساس " بالكسر والفتح، فان كسرت فمثل لا رجال، وإذا فتحت الميم بنيت على الكسر مثل نزال، قال رؤية: حتى تقول الأزد لا مساسا (1) وقال الشاعر:

تميم كرهط السامري وقوله * ألا لا يريد السامري مساسا (2)

وكله بمعنى المماسة والمخالطة. ثم قال " وان لك موعدا لن تخلفه " من جهتنا فيمن قرأ بالفتح، ومن قرأ بالكسر معناه لا تخلفه أنت، وهما متقاربان، ويريد بالموعد البعث والنشور والجزاء، اما جنة واما نارا. ثم قال " انظر إلى الهلك " يعني معبودك عند نفسك أبصره " الذي ظلت عليه عاكفا " قال ابن عباس: معناه أقمت عليه عاكفا، واصله ظللت، فحذف اللام المكسورة للتخفيف وكراهية التضعيف، وللعرب فيها مذهبان، فتح الظاء، وكسرها، فمن فتح تركها على حالها، ومن كسر نقل حركة اللام إليها للاشعار بأصلها. ومثله مست ومست في مسست. وهمت وهمت، في هممت، وهل أحست في أحسست، قال الشاعر:

خلا ان العتاق من المطايا * أحس به فهن إليه شوس (3)

وقوله " لنحرقنه " يعني بالنار يقال: انه حرقه ثم ذراه في البحر - في قول ابن عباس - يقال حرقته بتشديد الراء إذا حرقته بالنار وحرقته بتخفيف الراء بمعنى بردته بالمبرد، وذلك لأنه يقطع به كما يقطع المحرق بالنار يقال حرقته وأحرقته حرقا، كما قال الشاعر:

بذي فرفير يوم بنو حبيب * بيوتهم علينا يحرقونا (4)

وقال زهير:

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه * عليه فأفضى والسيوف معاقله (5)

وقرأ أبو جعفر المدني " لنحرقنه " بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء بمعنى لنبردنه. وروي ذلك عن علي (ع)، ويقال نسف فلان الطعام بالمنسف إذا ذراه لتطير عنه قشوره. وقال سعيد بن جبير: كان السامري رجلا من أهل كرمان. وقال قوم: كان من بني إسرائيل، واليه تنسب (السامرة) من اليهود. وحكى قوم: ان قبيلته إلى اليوم يقولون في كلامهم: لا مساس. ثم اقبل على قومه فقال " إنما الهكم الله الذي لا لا إله إلا هو " اي ليس لكم معبود الا الله الذي " وسع كل شئ علما " اي يعلم كل شئ، لا يخفى عليه شئ منها، وهي لفظة عجيبة في الفصاحة. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله مثل ذلك " نقص عليك من أبناء " يعني اخبار " ما قد سبق " وتقدم " وقد آتيناك من لدنا ذكرا " اي أعطيناك من عندنا علما بأخبار الماضين. وقال الجبائي: أراد آتيناك من عدنا القرآن لأنه سماه ذكرا. ثم قال " من اعرض " عن التصديق بما أخبرناك به وعن توحيد الله، واخلاص عبادته " فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " اي اثما، واصل الوزر الثقل، في قول مجاهد.


1- تفسير الطبري 16 / 137 والقرطبي 11 / 242.

2- تفسير الطبري 16 / 138.

3- ديوان (دار بيروت) 69 وهذا البيت برمته ساقط من المطبوعة.

4- سورة 17 الاسرى آية 97.

5- سورة 17 الاسرى آية 110.