الآيات 91-95

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾

القراءة:

قرأ " يا ابن أم " - بفتح الميم - ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص. الباقون - بكسر الميم - من فتح الميم جعل " ابن أم " اسما واحدا وبناهما على الفتح مثل (خمسة عشر) إلا أن (خمسة عشر) تضمن معنى الواو، وتقديره خمسة وعشرة، و " ابن أم " بمعنى اللام وتقديره: لامي، وكلاهما على تقدير الاتصال بالحرف على جهة الحذف، ويجوز " يا ابن أم " على الإضافة، ولم يجئ هذا البناء إلا في يا أبن أم، ويا عم، لأنه كثر حتى صار يقال للأجنبي، فلما عدل بمعناه عدل بلفظه، قال الشاعر:

رجال ونسوان يودون أنني * وإياك يا ابن عم ونفضح

ويحتمل أن يكون (أراد يا بن أماه) فرخم. ويحتمل أن يكون أراد (يا بن اما) (فخفف، ومن كسر أراد يا بن أمي (1) لان العرب تقول: يا ابن اما بمعنى يا ابن أمي ويا ربا بمعنى يا ربي. فمن كسر أراد: يا ابن أمي، فحذف الياء وأبقى الكسرة تدل عليها. حكى الله تعالى ما أجاب به قوم موسى لهارون حين نهاهم عن عبادة العجل وأمرهم باتباعه، فإنهم " قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى " أي لن نزال لازمين لهذا العجل إلى أن يعود الينا موسى، فننظر ما يقول قال الشاعر:

فما برحت خيل تثوب وتدعي * ويلحق منها لاحق وتقطع (2)

والعكوف لزوم الشئ مع القصد إليه على مرور الوقت، ومنه الاعتكاف في المسجد. ثم اخبر تعالى أن موسى لما رجع إلى قومه، قال لهارون " يا هارون ما منعك ألا تتبعني " قال ابن عباس: معناه بمن أقام على إيمانه. وقال ابن جريج: معناه ألا تتبعني في شدة الزجر لهم عن الكفر. ومعنى (ألا تتبعني) ما منعك أن تتبعني و (لا) زائدة، كما " قال ما منعك ألا تسجد إد أمرتك " (3) وقد بينا القول في ذلك. وإنما جاز ذلك لأنه المفهوم أن المراد ما منعك بدعائه لك إلى أن لا تتبعني فدخلت (لا) لتنبئ عن هذا المعنى، وهو منع الداعي دون منع الحائل. وقوله " أفعصيت أمري " صورته صورة الاستفهام، والمراد به التقرير، لان موسى كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره، فقال له هارون في الجواب " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " حين اخذ موسى بلحيته ورأسه. وقيل في وجه ذلك قولان:

أحدهما: ان عادة ذلك الوقت أن الواحد إذا خاطب غيره قبض على لحيته، كما يقبض على يده في عادتنا، والعادات تختلف ولم يكن ذلك على وجه الاستخفاف.

الثاني: انه أجراه مجرى نفسه إذا غضب، في القبض على لحيته، لأنه لم يكن يتهم عليه، كما لا يتهم على نفسه. وقوله " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " معناه إني خفت أني أن فعلت ذلك على وجه العنف والاكراه أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم ويصيروا أحزابا، حزبا يلحقون بموسى وحزبا يقيمون مع السامري على اتباعه، وحزبا يقيمون على الشك في أمره. ثم لا يؤمن إذا تركتهم كذلك أن يصيروا بالخلاف إلى سفك الدماء، وشدة التصميم على أمر السامري، فاعتذر بما مثله يقبل، لأنه وجه من وجوه الرأي. قوله " ولم ترقب قولي " أي لم تحفظ قولي - في قول ابن عباس - فعدل عن ذلك موسى إلى خطاب السامري، فقال له " ما خطبك يا سامري " أي ما شأنك وما دعاك إلى ما صنعت ؟! وأصل الخطب: الجليل من الامر، فكأنه قيل: ما هذا العظيم الذي دعاك إلى ما صنعت.


1- سورة 7 الأعراف آية 11.

2- تفسير القرطبي 11 / 241 / والشوكاني 3 / 371.

3- تفسير القرطبي 11 / 240.