الآيات 11-15
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو عمور " اني أنا ربك " بفتح الهمزة والياء. الباقون بكسرها وسكون الياء إلا نافعا فإنه فتح الياء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي " طوى " بضم الطاء مصروفا. وروى بكسر الطاء غير مصروف أبو زيد عن أبي عمرو. وقال: هي أرض. وقرأ " وانا اخترناك " بالتشديد بألف حمزة، واصله واننا اخترناك والنون والألف نصب ب? (إن) و (ان) مع ما بعدها في موضع نصب بتقدير، نودي " إنا اخترناك ". وقرأ الباقون " وأنا اخترتك " على التوحيد ف? (أنا) رفع بأنه ابتداء و " اخترتك " خبره. وفى قراءة أبي " وإنني اخترتك " فهذه تقوي قراءة حمزة والكسائي. من لم يصرف " طوى " يجوز أن يكون اعتقد انه معدول عن (طاو) وهو معرفة، ويجوز أن يكون نكرة، لأنه اسم البقعة. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله إن موسى (ع) لما أتى النار التي آنسها نودي، فقيل له يا موسى، والنداء الدعاء على طريقة يا فلان، وهو مد الصوت بنداء على هذه الطريقة يقال: صوت نداء، وذلك أنه بندائه يمتد " إني انا ربك " فيمن فتح الهمزة. فالمعنى نودي بأني أنا، ولما حذف الباء فتح. ومن كسرها فعلى الاستئناف أو على تقدير قيل له إني أنا ربك الذي خلقك ودبرك " فاخلع نعليك " وإنما علم موسى (ع) أن هذا النداء من قبل الله تعالى بمعجزة أظهرها الله، كما قال في موضع آخر " نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى اني أنا الله رب العالمين * وان ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " حتى قيل له " يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " (1) وقيل السبب الذي لأجله أمر بخلع النعلين فيه قولان:
أحدهما: ليباشر بقدميه بركة الوادي المقدس في قول علي (ع) والحسن وابن جريج.
وقال كعب وعكرمة: لأنها كانت من جلد حمار ميت. وحكى البلخي أنه امر بذلك على وجه الخضوع والتواضع، لان التحفي في مثل ذلك أعظم تواضعا وخضوعا. والخلع نزع الملبوس يقال: خلع ثوبه عن بدنه وخلع نعله عن رجله. وقد ينزع المسمار، فلا يكون خلعا، لأنه غير ملبوس ويقال: خلع عليه رداءه كأنه نزعه عن نفسه وألبسه إياه. والوادي سفح الجبل. ويقال للمجرى العظيم من مجاري الماء واد واصله عظم الامر. ووديته إذا أعطيته ديته، لأنها عطية عن الامر العظيم من القتل. والمقدس المبارك - في قول ابن عباس ومجاهد - وقيل هو المطهر، قال امرؤ القيس: كما شبرق الولدان ثوب المقدس (2) يريد بالمقدس: العابد من النصارى، كالقسيس ونحوه و (شبرق) أي شق. وقيل في معنى (طوى) قولان:
أحدهما: قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: هو اسم الوادي.
وقال الحسن: لأنه طوي بالبركة مرتين، فعلى هذا يكون مصدر طويته طوى، وقال عدي بن زيد: آعاذل ان اللوم في غير كنهه * علي طوى من غيك المتردد (3) وقوله " وأنا اخترتك " اي اصطفيتك " فاستمع لما يوحى " إليك من كلامي واصغ إليه وتثبت " إني انا الله لا إله إلا انا " أي لا إله يستحق العبادة غيري " فاعبدني " خالصا، ولا تشرك في عبادتي أحدا " وأقم الصلاة لذكري " أي لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم - في قول الحسن ومجاهد - وقيل: معناه لان أذكرك بالمدح والثناء. وقيل المعنى متى ذكرت ان عليك صلاة كنت في وقتها أو فات وقتها، فأقمها. وقرئ - بفتح الراء - قال أبو علي: يحتمل أن يكون قلب الكسرة فتحة مع ياء الإضافة. ثم اخبر الله تعالى بأن الساعة يعني القيامة " آتية " أي جائية " أكاد أخفيها " معناه أكاد لا أظهرها لاحد - في قول ابن عباس والحسن وقتادة - أي لا أذكرها بأنها آتية، كما قال تعالى " لا تأتيكم إلا بغتة " (4) وقيل " أخفيها " بضم الألف بمعنى أظهرها، وانشد بيتا لامرئ القيس بن عابس الكندي:
فان تدفنوا الداء لانخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (5)
فضم النون من نخفه - ذكره أبو عبيدة - قال أنشدنيه أبو الخطاب هكذا، وأنشده الفراء بفتح النون. وقال أبي بن كعب: المعنى " أكاد أخفيها " من نفسي. قال ابن الأنباري تأويله من نفسي " أكاد أخفيها " أي من قبلي، كما قال " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " (6). وقوله " لتجزي كل نفس بما تسعى " اي تجازي كل نفس بحسب عملها، فمن عمل الطاعات أثيب عليها، ومن عمل المعاصي عوقب بحسبها.
1- شرح ديوانه: 120 وصدره: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا.
2- تفسير الطبري 16 / 96 ومجمع البيان 4 / 4.
3- سورة 7 الأعراف آية 186.
4- شرح ديوان امرئ القيس: 77 والطبري 16 / 100 والقرطبي 11 / 182 والشوكاني 3 / 347 وغيرها.
5- سورة 5 المائدة آية 119.
6- تفسير الطبري 16 / 102 وأكثر كتب النحو يأتون به شاهدا على أن (هذا) أسم موصول بمعنى الذي.