4 - الدلالة الهامشية

وهي أوسع الدلالات مجالا، لأنها تعتمد على تعدد التخصص في الاستنتاج، فهي تبع لنوعية ثقافة المفسر، ودقة نظره، وزاوية إفادته، على مختلف الاتجاهات والثقافات عند المفسرين، فقد تجد في سياق العبارات من الألفاظ أثراً للمطابقة والمقابلة في مجانسة الأضداد والجمع بين المتقابلين، والتفريق بين المتجانسين مما يلحظه البلاغي بحسب ذائقته الفنية، بينما يلحظ فيها النحوي مجالاً آخر في الاستفادة من تخريج اللفظ على الوجه النحوي في الاستعمال القياسي أو السماعي، حتى لا يهم اللغوي منه هذا الفهم أو ذاك بل يبحث عن ضالته في تكثيف معجمه اللغوي بما يفيده هذا اللفظ أو ذاك.

وهكذا نجد الدلالة الهامشية مجالاً خصباً لمختلف الاجتهادات، إلا أننا نجدها هنا أكثر تحكماً من قبل البلاغي، لاستخراجه لها من عدة وجوه واحتمالات، أي أنه - نتيجة لعلاقة تحمسه بالألفاظ أقدر من غيره على توجيه هذه الدلالة تجاه مساره البلاغي.

وسنلقي ضوءا - فيما يلي - على الفهم المتفاوت لنصوص الالفاظ، بحسب تخصص المتلقي على الوجه التالي:

أ - اللغوي لا يرى بأساً بأن يجد بألفاظ أية واحدة من آيات المثل القرآني حروف المعجم العربي قاطبة، فيحقق بذلك بغيته في التأكيد على هذا الجانب من الألفاظ، والآية هي: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما (29)) (1).

فهو ينظر إلى هذا النص نظرة جانبية، ويدور معه حول هامشه غير ناظر إلا لحروف الالفاظ، وكيف قد كونت حروف الهجاء.

ب - والنحوي ينظر إلى اللفظ من زاويته من زاويته الخاصة، فاستعمال (الذي) بدل (الذين) في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) (2) يقوم بتوجيه الفراء نحوياً فيقول: (إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان القوم، وإنما هو مثل للنفاق، فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، ولم يقل: الذين استوقدوا) (3) فالفراء قد افاد من اللفظ ما يفيده النحوي في التخريجات ووجه علة تصحيح النصوص أداء، فحمل صيغة العدول عن الجمع إلى المفرد، على العدول من أعيان المنافقين وهم جمع، إلى النفاق وهو مفرد، لأن الحديث منصب على النفاق لا الأشخاص، أما حينما أراد المثل الحديث عن المنافقين بالذات وهم جمع أشار إليهم بالجمع فقال (ذهب الله بنورهم) (4).

ج- - والمنطقي كسابقيه اللغوي والنحوي، إنما ينظر إلى اللفظ من وجهة نظره المحدد بين التصور والتصديق، فيستفيد من كلمة (حبة) مضمومة إلى كيفيتها في الإنبات بقوله تعالى: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة...) (5) بأنه (لا يلزم أن توجد حبة بهذه الصفة.إنما المقصود تصوير زيادة الأجر لا غير، فإن وجدت صورة توافق المذكور في أكثر الخصوصيات أو كلها كان من قبيل لزوم ما لا يلزم) (6) وقد عقب الطبرسي على السنبلة من نفس الآية، وعلل تصورها بالفهم نفسه فقال: (متى قيل: هل رؤي في سنبلة مئة حبة حتى يضرب المثل بها، فجوابه أن ذلك متصور وإن لم ير، كقول امرئ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال (7)

وقوله تعالى: (طلعها كأنه رءوس الشيطين) (8) (9).

د - والبلاغي حينما ينظر إلى اللفظ يستطيع بشكل وآخر أن يؤول هذا اللفظ بعدة اعتبارات يغوص بعضها في الأعماق ويطفو بعضها على السطح، وزايدة على تمرسه باستخراج الصور البلاغية الأصيلة كالمجاز والتشبيه والاستعارة، فإن فهمه الخاص يقوده إلى استنباط جمال اللفظ بوجوه مختلفة، نجمل بعضها بما يلي: في ملاءمة الالفاظ لما يجاورها يجد البلاغي دلالة هامشية في مقابلة هذه الألفاظ وألفاظ آخر من نسخها فيستنتج من ذلك جمال تلك الألفاظ، وضرورة استعمالها دون سواها، لتحقيق هذا الغرض الهامشي، ويتمثل هذا بالتخريجات التالية:

آ - الآيتان (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا اراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيرا ويدى به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)) (10).

استخرج منها السيوطي عدة مقابلات في الألفاظ، أجملها بأن الله تعالى قد (قابل بين 0 بعوضة فما فوقها)، وبين (فأما الذين آمنوا) و (أما الذين كفروا)، وبين (يضل) و (يهدي)، وبين (ينقضون) و (ميثاقه) وبين (يقطعون) و (أن يوصل)) (11).وما أفاده السيوطي واستخرجه من مقابلة هذه الألفاظ عبارة عن منحنى جانبي يتعلق بالألفاظ، هذا المنحنى الجانبي هو المعبر عنه بالدلالة الهامشية، لأنه بحث موقع لفظ من لفظ.

ب - قوله تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) (12) (13) فإن هذا الجزء من الآية لعجيب حقاً في مقابلاته، فهو مركب من تسع كلمات تقابلت كلها باستثناء (فيه): (كلما - إذا و (أضاء - أظلم) و (لهم - عليهم) و (مشوا - قاموا)، وأن تأتي هذه المقابلة متجانسة وضعاً وتسلسلاً وصياغة وقد عرض لجزء من فنون هذا الجزء الزمخشري بتعليقه: فإن قلت كيف قيل مع الإضاءة (كلما) ومع الأضلام (إذا)، قلت: لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه فكلما صادفوا منه فرص انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس (14) بينما لم يشر إلى ملاءمة أضاء لأظلم، ولهم لعليهم، ومشوا لقاموا فيما تعطي من وجود التركيب وعظيم الدلالة.

ج- - (وقد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر، إذا تؤمل كان من أكمل المقابلات) (15) ونموذج هذا الرأي قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والاصم والبصير والسميع...) (16) (فإنه يتبادر فيه سؤال، وهم لم لا قيل: مثل الفريقين كالأعمى والبصير، والأصم والسميع، لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير، وفي لفظ الأصم وضده بالسمع).

د - ومن المقابلات ذات الدلالة الهامشية قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموت إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22)) (17) فجعل الأعمى في مقابل البصير وهو الامر الطبيعي في مقابلة الأضداد، وكذلك جعل الظلمات في مقابل النور، والظل إزاء الحرور، والأحياء قبل الأموات، وإن الله يسمع من يشاء مقابل وما أنت بمسمع من في القبور.

وقد اعتبر ابن الزملكاني الجزء الأخير منه في الإفراط في التنزيل والغاية في التحقير (18).

ثانياً: في استعمال اللفظ للتعريض وفي الكناية خرج البلاغي دلالة هامشية بمثل هذه التخريجات.

آ - الكلمة (قرية) في قوله تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة...) (19) وقد استعمل فيها اللحن وهو (التعريض بالشيء من غير تصريح، أو الكناية عنه بغيره) (20).فقد عرض الله بأهل مكة وما يصيبهم من العذاب شأن الأمم السابقة، ولم يصرح بذلك كما هي عادته في هذا المجال، وإنما يشير إلى ذلك لحناً صوراً وبالرمز صور أخر، كما عرض بالمنافقين وذكر أوصافهم في ألفاظ مخصوصة بهم، ولكنه أمسك عن ذكر أسمائهم إبقاء عليهم وتألفا لقلوبهم.

ب - وفي استعمال الكلمة (امرأة) بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط...) (21) دلالة هامشية حملها الزمخشري على التعريض بقوله: وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة (عائشة وحفصة) وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله (ص) بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده....وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصتين.وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من الطف الخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره) (22).

ج- - والكلمتان (يخرج) و (خبث) في قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) (23) فيهما دلالة هامشية يعتمدها البلاغي بالكناية: على أن المؤمن يؤمل منه الخير، ويؤثر عنه الهدى، ويرجى فيه الصلاح، وأن الكافر لا يؤمل خيره، ولا يحتمل نفعه، ولا يؤتمن شره.

د - الكلمة (ثابت) في قوله تعالى: (أصلها ثابت وفرعها في السماء...) (24) فيها دلالة هامشية بالكناية عن علو الشجرة ورفعتها وسموها، وتأكيد لرسوخ الأصل، لأن الأصل إذا رسخ ارتفع الفرع.

هـ - وكلمة (الكفار) في قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته...) (25) فيها إشارة دقيقة تصور لنا الكافر متعلقاً ومعجباً بالحياة الدنيا، وإن هذا الإعجاب شديد.

ثالثاً: في مجال الظهور والإبانة يؤول البلاغي اللفظ بحسب ذائقته على الوجه التالي:

أ - الكلمة (انسلخ) في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي ءاتينه ءايتنا فانسلخ منها...) (26) تحقق لنا في مقام الإبانة عن الجانب الآخر للفظ: شدة النزع وعظم الانسلاخ تدريجياً دون مطاوعة واتساق فيما يبدو لنا من الظهور العرفي لمفهوم سلخ الشاة وإضرابها.

ب - الكلمة (عبادنا) في قوله تعالى: (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين (10)) (27)

أفاد منها الزمخشري دلالة هامشية تعني بحقيقة الصلاح بصفة العبد، والتي تنظر - وحدها - من قبل الله تعالى.

قال الزمخشري (فإن قلت: ما فائدة قوله (من عبادنا)؟ قلت: لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائناً من كان، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله.قال: عبدين من عبادنا صالحين، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما (عبدان) لم يكونا كسائر عبادنا، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح لا غير، وإن ما سواه مما يرجع به الناس ليس بسبب للرجحان عنده) (28).

ج- - والكلمة (تسعى) في قوله تعالى: (وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى...) (29)

فيها رصد هامشي لبعد السعي في دلالته على الجدية والحث والمواظبة لا المشي والسير بسرعة فحسب، بل هو اشتراك فعال في حسم النزاع، وفض الخصومة، والدعوة إلى الإصلاح، بجنان ثابت، متواصل، وجهد ملموس، حتى عد الرجل ساعياً، لتحقق الدلالة في أنه (يسعى).

ويبدو مما تقدم أن دلالة الألفاظ في مجالاتها المتنوعة الفسيحة قد أضفت برداً فضفاضاً من الأحاسيس التي يتأملها الإنسان فيقف خاشعاً متطلعاً إلى فلسفة هذا الاختيار في لفظ دون لفظ، وكلمة بدل كلمة، مما يحقق في جزء كبير منه معنى الإعجاز، حتى في حدود الكلمة المفردة، وإلا فلا أقل من تحقيق جزء من عناصر الصورة الفنية.


1- الفتح: 29.

2- البقرة: 17.

3- ابن ناقيا، الاجمال في تشبيهات القرآن: 56.

4- البقرة: 17.

5- البقرة: 261.

6- الهلوي، الفوز الكبير في أصول التفسير: 29.

7- البيت لامرئ القيس وصدره: أيقتلني والمشرقي مضاجعي، ديوان امرئ القيس: 33، تحـ: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف بمصر.

8- الصافات: 65.

9- الطبرسي، مجمع البيان: 1|374.

10- البقرة: 26 ـ 27.

11- السيوطي، الاتقان: 3|286.

12- البقرة: 20.

13- الزمخشري، الكشاف: 1|86.

14- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3|465.

15- هود: 24.

16- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3|466.

17- فاطر: 19 ـ 22.

18- ابن الزملكاني، البرهان: 310.

19- النحل: 112.

20- قدامة بن جعفر، نقد النثر: 50.

21- التحريم: 10.

22- الزمخشري، الكشاف: 4|571.

23- الاعراف: 58.

24- إبراهيم: 24.

25- الحديد: 20.

26- الأعراف: 175.

27- التحريم: 10.

28- الزمخشري، الكشاف: 4|752.

29- يس: 20.