3 - الدلالة الإيحائية

وتبرز ملامح الدلالة الإيحائية في استيعاب المثل القرآني لصيغ ألفاظ معينة، وكلمات مؤثرة، توحي بأكثر من مدلولها الظاهري، وتنطوي على جملة من المعاني الأخرى، فهي المقياس الفني لتقدير قيمة اللفظ بقدر ما ينتجه ذلك اللفظ من إيحائية خاصة به، فقيمة اللفظ تتأثر بهذه الإيحائية ونوعيتها قوة وضعفاً، فكلما كانت إيحائية الكلمة عالية، كانت قيمة تلك الكلمة فنياً عالية أيضاً والعكس بالعكس.

وإذا كان المثل القرآني قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك (من قوة تعبيرية، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة، ومشاعر كامنة، لفت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي) (1).

وفي هذا الضوء نرصد إيحائية ألفاظ المثل القرآني في جزء منها:

أولاً: الكلمة (تثبيتاً) في قوله تعالى: (وتثبيتاً من أنفسهم...) (2) فيها من الدلالة الإيحائية، الانتقال بمشاعر الإنسان في الغبطة والسرور إلى عالم روحي محض يحمل بين برديه جميع مقومات الرضا من الله، والعناية بالنفس المطمئنة، التي لا تأمل إلا التثبيت والاستقامة.

ثانياً: والكلمة (ربوة) في قوله تعالى: (كمثل جنة بربوة أصابها وابل...) (3)

تحمل صورة فريدة في تخيل الجنان تتساقط عليها الأمطار فتمسح سطحها، وهي سامقة شامخة فتزيل القذى عن أشجارها، وتثبت جذورها، وتمنحها القوة والحياة والاستمرار، وهي على نشز من الأرض تباكرها هذه الهبات، وما يوحي ذلك من مناخ نفسي يسكن إليه الضمير.

ثالثاً: والكلمة (بصير) في قوله تعالى: (والله بما تعملون بصير (265)) (4) توحي هنا بدقة الملاحظة وشدة الرقابة والإحاطة الشاملة بجزئيات الأمور كلياتها، وحيثيات الإنسان وتصرفاته، فعمله منظور لا يغفل عنه، ووجوده في رصد لا يترك، وأعماله في سبر وإحصاء.وهذا الإيحاء نفسه يوحي بإيحاء آخر هو: إن الله بصير لا بالعين الناظرة، لأن العين لها ما شاهدت والله يرصد ما يشاهد ما يخفى وما تجن الصدور.

إن هذه الإيحائية تحتمها دلالة اللفظ.

رابعاً: واختيار كلمة (تراب) بدلاً من (طين) في قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب...(59)) (5) ذو طبيعة إيحائية تضفي على اللفظ أكثر من المعنى الظاهر الذي يتبادر له الذهن، فقد أريد بها هنا أن الإنسان خلق من أدنى القسيمين الطين والتراب.

فاختار التراب ليومي إلى هذه الدلالة.وقد اعتبرها الزركشي (ت 794 هـ) من مشاكلة اللفظ للمعنى، ومتى كان اللفظ جزلاً كان المعنى كذلك، وتابع في تعليله ابن أبي الاصبع فيما تقدم (6).

قال الزركشي (إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر خلقه عند من ادعى ذلك، فلهذا كان الاتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر) (7).

خامساً: والكلمة (فجرنا) في قوله تعالى: (وفجرنا خلالهما نهراً) (8) توحي زيادة على الوقع الهائل في تصور التفجير وما يصاحبه من صخب وتموج - بعدم المعاناة في السقي، والإجهاد في الإرواء، فالمياه متسلطة، والأنهار جارية، دون مشقة أو عناء، فلا كراء مرير، ولا توجيه لمجاري المياه ولا انتظار لهطول الأمطار، فالتفجير حاصل متيقن، وحاصله المياه الغزيرة.

سادساً: وفي تكرار الكلمة نفسها، واللفظ في صيغ معينة له دلالته على المعاني الموحية ففي الآيات (13، 14، 16، 20) من سورة ياسين، تكرار لكلمة (المرسلين) ففي الآية الأولى أخبار عن مجيئهم، وفي الثانية تأكيد لإرسالهم ب-(انا) وفي الثالثة تأكيد مضاعف (بانا) واللام، وفي الرابعة تحلية بالألف واللام الهدية..وفي هذا التوسع بذكر المرسلين وتفاوت التأكد تدريجياً بين الشدة والضعف، تثبت بالاستدلال على صحة إرسالهم، فالأولى ضمن جملة خبرية، والثانية مؤكدة من قبلهم برسول ثالث، والثالثة تؤكد بإصرار وحزم بعد تكذيبهم من قبل أممهم، وفي الرابعة يرسل الرجل المؤمن رسالتهم إرسال المسلمات، فيتحلى اللفظ بالألف واللام للعهد القديم المؤكد، وكل هذا يوحي بصدق دعواهم، وصحة رسالتهم.ومن خلال هذه الصيغ المتدرجة عرفنا أن في هذا التأكيد بهذه الصيغ في (أن) مؤكدة لضمير المتكلم المعظم نفسه، أو جماعة المتكلمين، واللام المؤكدة على الخبر بالإرسال، جمالاً في المعنى الإيحائي لا يتأتى بإهمال هذه الحروف عند هذه الصيغ، لأن أهل الطباع يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه) (9).

فإذا أضفنا إلى ذلك أن اجتماعهما قد كان: بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات، لأن إفادة التكرير مرتين، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثاً.

وعن الكسائي: أن اللام لتوكيد الخبر، وأن لتوكيد الاسم..وأن التوكيد للنسبة (10) أي النسبة القائمة بين الاسم والخبر..علمنا مدى انطباق الدلالة الإيحائية على هذا التأكيد من جهة، وعلى تكرار كلمة (المرسلين) من جهة أخرى.

سابعاً: والحق أن بهذا المثل زيادة على ما تقدم عدة كلمات ذات إيحائية خاصة نشير إلى بعضها بما يلي:

أ - الكلمة (تطيرنا) في قوله تعالى: (قالوا إنا تطيرنا بكم...) (11) لها إيحاء نفسي مرير يخالج القوم بالتطير، وما يضفيه مناخ التشاؤم من تثاقل وغم، وما يعنيه من إيمانهم بالخرافات والاساطير التي تحاك حول ذلك، ليصور مدى ضيق القوم بهؤلاء المرسلين حتى أصبح وجودهم بين ظهرانيهم مثاراً للمخاوف والهواجس.

ب - والكلمة (صيحة) في قوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة...) (12) فإنها توحي بهول الصدمة، وعظم الهدة، وتعني إخماد الأنفاس، وشل الحركة، وانهيار الحياة، وقيام الساعة.

ج- - والكلمة (ادخل) في قوله تعالى: (قيل ادخل الجنة...) (13) فإنها تحمل نداء الرب إلى العبد، وحديث القلب للقلب، فالدخول متحقق من أوسع أبوابه، وفيها إيحاء خاص بأن المؤمن المستقيم سوف يتمتع بثمرة أتعابه، وينعم ببركة إيمانه، فما بعد هذا الدخول من خروج.

ثامناً: وقد عد السيد المرتضى (ت 436 هـ) كلمتي (خاشعاً) و (متصدعاً) في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (14) من صيغ الإيحاء في الدلالة على المبالغة التي تدعو إلى تعظيم القرآن في مقام الأخبار عن جلالة خطره، وعظم قدره فقال: (إننا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل مما يتصدع إشفاقاً من شيء أو خشية لامر، لتصدع مع صلابته وقوته، فكيف بكم يا معاشر المكلفين مع ضعفكم وقلتكم وأنتم أولى بالخشية والإشفاق) (15).

وهذا يعني أن وراء اللفظ معنى آخر يوحيه بدلالته: وهو صيغة الانفعال عند الإنسان، فليس المقصود خشية الجيل وتصدعه، بل المقصود خشية الإنسان وخشوعه، إذ ليس من شأن الجيل أن يخشع والخشوع والخشية، كلاهما من أفعال القلوب التي لا تصدر عن جماد، إلا أن يكون ذلك من صنع البيان إذ يبث الحياة في الصخر الأصم (16).

تاسعاً: والجانب الإشاري في الألفاظ يوحي بالتعبير عن الصورة الفنية للشكل، بما يستنبط من اللفظ من معنى جديد، من خلال تركيب النص، يوحي ذلك المعنى بأكثر من إرادة ظاهر اللفظ، ويتمثل هذا الجانب ببعض النماذج التالية:

أ - الكلمتان (يذهب) و (يمكث) في قوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض...) (17) لا يراد بهما مجرد الذهاب أو الاستقرار والإقامة فحسب، وهو المتناول اللغوي من ظاهر الكلمتين بل فيهما إشارة بالكناية توحي: بأن الأشرار قد يظهرون على الأبرار، وأن الأخيار قد يلفهم التيار، ولكن هذا لا يعني تلاشي الحق وضياع الواقع، إذ لا بد للحقيقة أن تتزين بأبهى حللها ولو بعد حين، وإذا بالمعدن الأصيل ثابت شامخ، وإذا بالأوضار منفية ذائبة، وإذا بالأول (يمكث) في الأرض رسوخاً، وإذا بالثاني (يذهب) غائراً في خضم الأحداث.

ب - الكلمة (أشداء) في قوله تعالى: (أشداء على الكفار...) (18) تحمل إلى الذهن كل معاني الغلظة والثبات والمجاهدة وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر، لا الشدة في مقابل الضعف فحسب، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً - لتحرك النفوس وتهز الضمائر - إلى التفاني في ذات الله، وإلى التشدد بأحكام الله، وإلى التنفيذ لأوامر الله، فلا لومة لائم، ولا غضب عاتب.

ج- - والكلمة (القانتين) في قوله تعالى: (وكانت من القانتين) (19) استفاد منها الزركشي (ت 794 هـ) دلالة إيحائية برفع مستوى مريم فيها إلى مصاف الرجال ممن وصفوا بالجد والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة (أذاناً بأن وضعها في العباد جداً واجتهاداً، وعلماً وتبصراً، ورفعة من الله لدرجتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم) (20).

والمستفاد هنا لا وصفها بالعبادة فحسب، بل رفع درجتها إلى مصاف الرجال الموصوفين بذلك إشارة لتمخضها في العبادة.


1- هـ. ب. تشارلتن، فنون الأدب: 76.

2- البقرة: 265.

3- البقرة: 265.

4- البقرة: 265.

5- آل عمران: 59.

6- ظ: فيما تقدم: القيمة اللفظية من هذا الفصل.

7- الزركشي، البرهان: 3|378.

8- الكهف: 33.

9- السيوطي، الاتقان: 3|196.

10- المصدر نفسه: 3|195.

11- يس: 18.

12- يس: 29.

13- يس: 26.

14- الحشر: 21.

15- المرتضى: 1|428 وما بعدها.

16- بنت الشاطي، الإعجاز البياني للقرآن: 209.

17- الرعد: 17.

18- الفتح: 29.

19- التحريم: 12.

20- الزركشي، البرهان: 3|302.