2 - الدلالة الاجتماعية

تتوافر دلالة الألفاظ الاجتماعية في استعمالها اللغوي في عدة مجالات من المثل القرآني، ومرجع هذه الدلالة هو التبادر العام في العرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة خاصة بها، ومراعات هذا العرف ذو أثر مهم في الدلالة المعينة للكلمة ولهذا اعتبر الخطابي (ت 383 - 388 هـ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة (لفظ حاصل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم.وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه) (1).

وقد جرى المثل القرآني وهو جزء من القرآن على هذا المجرى فأعطاه أهميته في تخير ألفاظه للدلالة على المعنى المراد، وسنختار بعض المفردات منه منفردة بنفسها، أو مضمومة لغيرها، من أجل تحقيق الفكرة بأصولها.

أولاً: الكلمة (صفوان) من قوله تعالى: (كمثل صفوان عليه تراب...) (2)

وتعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات غير قابلة للانفصال يتماسك ويتوافر بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك، فبعبارة تقاطر المطر وتدافع السيول، بدلاً من أن يهش ويلين ويتفتت وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة، صلباً لا ينفذ، ومتحجراً لا ينفذ، فإذا طالعتنا اللغة بأنه: (الحجر الأملس) (3) اتضح مدلول الكلمة في عمقها عدم ثبات شيء عليها.

ثانياً: والكلمة (وابل) من الآية نفسها (فأصابه وابل...) (4)

تدل لغوياً، على الغيث المنهمر، والمطر المتدافع، وتلمح مجازاً إلى الجود المتناهي في العطاء فهل يا ترى أن سيؤدي معناها بضم هذه الصفات جميعاً لغظ سواها، قد يؤدي معناها بعدة كلمات وإذا تم هذا فهو يعني الخروج عن الإيجاز المتوافر في وابل إلى الأطناب الذي لا مسوغ له في عدة ألفاظ أخر.

ثالثاً: والكلمة (لا يقدرون).

بضمها إلى (ما كسبوا) في قوله تعالى: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) (5) فيها من الدلالة على ما يلي: تصوير لحالة الحرمان، وإيذان بحلول الفقر، فلا المال المجموع بنافع، ولا الآمال الموهومة بمتحققة، يأس وادقاع مادي من تلك الأموال، وفقر معنوي من تلك الآمال سواء في الجزاء أو في الثواب الذين توهموا حصولهما، وعي متواصل يصلب القدرة والكسب معاً، وهذا إنما يتأتى فهمه بحسب العرف العام في تبادره لفهم معاني الألفاظ عند إطلاقها.

رابعاً: والكلمة (مشكاة) في قوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...) (6)

ذات دلالة اجتماعية خاصة، وإن تداولتها عدة لغات، واتفقت استعمالاً بين لسانين عند جيلين من البشر، لأن المشكاة عند العرب: (الكوة التي لا منفذ لها.وقيل هي في لسان الحبشة: الكوة).

قيل: كيف جاز أن تخاطب العرب بذلك مع قوله تبارك وتعالى: (عربي مبين) فالجواب: أنه جائز اتفاق الاسم الواحد في لغتين لا ينكر مثل ذلك فيما يقع من الوفاق بين أهل اللسانين.

ويجوز أن تكون المشكاة من جملة ما أعربته العرب من اللغات فغيرته ونطقت به فصار كلغتها (7).

والحق أن العربية قد أعطت هذه الكلمة غرضاً لغوياً خاصاً بها (8).

لذا وجدنا أن الكوة لا تعطي دقائق معنى المشكاة بما فيها من بهاء وجمال، وتبادر ذهني عام إلى المدلول منها في كل الوجوه المحتملة.

خامساً: والكلمة (الضمآن) في قوله تعالى: (يحسبه الظمان ماء...) (9) ذات دلالة لغوية خاصة بها، لا تمثلها كلمة الرائي مثلاً، ولو استعملها المثل لأصاب المعنى في جزء منه، ولكنها لا تقع موقع الظمان، فلو قال، يحسب الرائي ماء لم يقع موقع قوله (الظمآن) لأن الظمان أشد فاقة إليه، وأعظم حرصاً عليه (10).

سادساً: والكلمة (لجي) في قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي...) (11) تشعرك مركزياً يتدافع الأمواج، وتتابع الأمداد فأنت أمام فيض من السيول، وكثافة من الأزباد، ومهما أجال اللغوي فكره في معجمه فإنه لن يصل إلى كلمة تسد مسدها في الدلالة على صورة المعاني النابعة منها.

وفي هذا الضوء فإنني أميل إلى ما ذهب إليه زميلنا الدكتور العزاوي بقوله (إن في استقرار اللغة، وثبات صيغتها، قيمة عظمى، ونفعاً محموداً، وذلك في أكثر من وجه.فبعض الصيغ الموروثة، والتراكيب المتداولة، تؤدي المراد منها بدقة لأنها اكتسبت دلالة خاصة تعارف عليها الناس وأصبح من العسير أن تقوم مقامها أو تؤدي مؤداها عبارات أخرى قد يبتدعها أهل اللغة، ويحلونها محل تلك العبارات (12).

والدليل على صحة هذه الدعوى ما لمسناه من استعمال المثل القرآني للألفاظ المتقدمة: صفوان، وابل، مشكاة، الظمان، لجي.

سابعاً: وفي (لم يكد يراها) من قوله تعالى: (إذا أخرج يده لم يكد يراها) (13) دلالة لغوية على إرادة عدم الرؤية الحقيقية ونفيها إطلاقاً، بما أثبته النقاد اللغويون، تخطئة لابن شبرمة وتصحيحاً لقول ذي الرمة، حين بلغ هذا البيت (14):

إذا غير النأي المحبين لم يكد * رسيس الهوى من حب مية يبرح

فقال له ابن شبرمة، يا ذا الرمة أراه قد برح، ففكر ساعة ثم قال:

إذا غير الناي المحبين لم أجد * رسيس الهوى من حب مية برح

قال الراوي: فرجعت إلى أبي الحكم بن البحتري فأخبرته الخبر، فقال: أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله، إنما هذا كقول الله عز وجل: (أو كظلمت في بحر لجى يغشه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها من نور...(40)) (15)، أي لم يرها ولم يكد (16).

وأيد ذلك السيد المرتضى (ت 436 هـ) وازاد من تفصيل الدلالة الاجتماعية فيه، وعرض لجملة من الآراء في التأكيد على نوعية الظلمات وتدافعها بما استخرجه من (لم يكد يراها) قال المرتضى: (أي لم يرها أصلاً.لأنه عز وجل قال: (أو كظلمات في بحر لحي يغضه موج من فوقه موج من فوقه سحابج ظلمات بعضها فوق بعض (40))(17)

كان بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر ف- (يكد) على هذا التأويل زيدت للتوكيد، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها).

وقال قوم: معنى الآية: إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر لتكاثف الظلمة، وترادف الموانع من الرؤية.

وقال آخرون: معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها، لأن الذي شاهد من تكاثف الظلمات بأسه من تأمل يده، وقرر في نفسه أنه لا يدركها ببصره (18).

وأياً كان التفسير فدلالة الكلمة المركزية ظاهرة لدى التحقيق، إلا أن هناك شبهة في هذا الفهم المتقابل للكلمة مصدره العرف العام، وقد أوضح سبب هذه الشبهة ابن الزملكاني (ت 651 هـ) بقوله: (وما سبب هذا الشبهة إلا أنه قد جرى في العرف أن يقال: (ما كاد يفعل) و (لم يكد يفعل) في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد جهد.فمن هنا وهم ابن شبرمة في زعمه أن الهوى قد برح، وظن ذو الرمة مثل ذلك، وإنما هو في الحقيقة على نفي المقاربة فإن (كاد) موضوعة للدلالة على قرب الوجود بمحال أن يكون نفيها موجباً وجود الفعل) (19).

ثامناً: وفي كل كلمتي (ذهب) و (بنورهم) من قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) (20) دلالة مركزية في انسحاب أثر نفي العام على نفي الخاص، ولم يستعمل المثل: (الضوء) بدل (النور) ولا (اذهب) (ذهب) إلا مراعاة لذلك بما أشار إليه الزركشي (ت 794 هـ) بقوله: ولم يقل: (بضوئهم) بعد قوله (اضاءت) لأن النور أهم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على الكثير، ولذلك قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) (21) ففي الضوء دلالة على الزيادة، فهو أخص من النور، وعدمه لا يوجب عدم الضوء، لاستلزم عدم العام عدم الخاص، فهو أبلغ من الأول، والغرض إزالة النور عنهم أصلاً، ألا ترى ذكره بعده (تركهم في ظلمات) وهنا دقيقة، وهي أنه قال: (ذهب الله بنورهم) ولم يقل (أذهب نورهم) لأن الإذهاب بالشيء إشعار له يمنع عودته، بخلاف الذهاب، إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب، ومقتضى من الرجوع) (22).

تاسعاً: والكلمة (عبدا) بتقييدها (مملوكاً) في (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً...) (23) قد يتبادر لأول وهلة في الذهن أن العبد دون تقييد فيه دلالة على عدم الحرية فلماذا هذا التقييد إذن، ولكن الفهم الدقيق يقتضي التقييد، لأن الحر والعبد سواء أمام الله تعالى، فهما عبدان له، اتصفا بالحرية أو العبودية، فاراد الاحتراز من هذه الناحية بأنه عبد مملوك وليس بحر مقيد.

عاشراً: واستعمال كلمة (امرأة) بدل (زوج) بالنسبة لامرأة نوح ولوط، وهما زوجتان لهما، وبالنسبة لامرأة فرعون، وهي زوجته دون ريب في كل من (امرأت نوح وامرأت لوط...) (24) وقوله (امرأت فرعون) (25) هذا الاستعمال الدقيق ذو دلالة اجتماعية رائعة، توضحها الدكتورة عائشة عبد الرحمن بقولها: ونتدبر استعمال القرآن للكلمتين، فيهدينا إلى سر الدلالة، كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف: حكمة وآية، أو تشريعاً وحكماً (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (26) فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة، بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج (27).

وهذا بين بامرأتي نوح ولوط، ففي الخيانة الدينية التي أحدثاها انفصلت عرى الزوجية، وعاد كل زوج منهما امرأة فحسب، وفي امرأة فرعون تعطلت آية الزوجية بكفره وإيمانها، فعادا حقيقتين مختلفتين، لا تربطهما رابطة من سكن، ولا صلة من مودة، فعادت زوجته امرأة.

وزيادة على ما سبق بيانه، فإن الدلالة الاجتماعية تكشف بعمق ما يحيط بمؤدى اللفظ من إبهام وغموض ليعود جلياً مشرقاً، ففي قوله تعالى: (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له...) (28) تبدو كلمة (مثل) موهمة بأن لا مثل في العبارات التالية للمادة، حتى قال الأخفش: إن قيل أين المثل؟ فالجواب أنه ليس ها هنا مثل، وإنما المعنى: يا أيها الناس ضرب لي مثل: أي شبهت بي الأوثان فاستمعوا لهذا المثل (29).

ولكن الدلالة الاجتماعية تؤكد وجود المثل بمدلوله اللغوي أو بنقله الاستعاري بما عبر عنه الزمخشري بقوله: (فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلاً؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: مثلاً) (30).

فارجع الفصل بالموضوع إلى اللغة لتنفي الشبهة والإشكال.

ويبدو مما سلف أن الدلالة الاجتماعية في حدود ما عرضنا له من ألفاظ المثل القرآني قد روعي فيها الفهم المتبادر عنه الهيئة الاجتماعية في تحديد معنى اللفظ، وضبط مدلوله، فهي وسيلة مهمة لكشف الغموض والإبهام عن الألفاظ، وإليها يرجع في معرفة النص من خلال المعجم اللغوي.


1- الخطابي، بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: 24.

2- البقرة: 264.

3- الطريحي، مجمع البحرين 1|264.

4- البقرة: 264.

5- البقرة: 264.

6- النور: 35.

7- ابن ناقيا، الجمان في تشبيهات القرآن، 166.

8- ظ: تفصيل القول معاني المشكاة، الطبري جامع البيان: 18|137 ـ 140، ط الحلبي.

9- النور: 39.

10- العسكري، الصناعتين: 246.

11- النور: 40.

12- نعمة رحيم العزاوي، النقد اللغوي عند العرب: 321.

13- النور: 40.

14- ذو الرمة، ديوان شعر ذي الرمة: 90.

15- النور: 40.

16- المرزباني، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء: 283.

17- النور: 40.

18- المرتضى، أمالي المرتضى: 1|331.

19- ابن الزملكاني: البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: 154.

20- البقرة: 17.

21- يونس: 5.

22- الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 3|402.

23- النحل: 75.

24- التحريم: 10.

25- التحريم: 11.

26- الروم: 21.

27- بنت الشاطي، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق: 312 ـ 213.

28- الحج: 73.

29- ابن الجوزي، زاد المسير: 5|451.

30- الزمخشري: الكشاف: 3|171.