الآيات 84-90
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف (اليسع) بتشديد اللام، وفتحها وسكون الياء هاهنا، وفي (ص). الباقون بسكون اللام وفتح الياء. قال الزجاج التشديد والتخفيف لغتان. وقال أبو علي الألف واللام ليستا للتعريف بل هما زائدتان وكان الكسائي يستصوب القراءة بلامين ويخطئ من قرأ بغيرهما كأن الاسم عنده (ليسع) ثم يدخل الألف واللام. قال ولو كانت (يسع) لم يجز أن يدخل الألف واللام، كما لا يدخل في (يزيد) و (يحيى). قال الأصمعي فقلت له، ف? (اليرصع) من الحجارة و (اليعمل) من الإبل و (اليحمد) حي من اليمن، فكأنما ألقمته حجرا، وبعدها فانا قد سمعناهم يسمعون ب? (يسع) ولم نرهم يسمعون ب? (ليسع). وقال الفراء: القراءة بالتشديد أشبه بالأسماء العجمية التخفيف. قال لأنهم لا يكادون يدخلون الألف واللام في ما لا يجر مثل (يزيد، ويعمر) الا في الشعر أنشدني بعضهم:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله (1)
قال وإنما أدخلوا الألف واللام في يزيد لدخولهما في الوليد، فإذا فعلوا ذلك فقد أمسوا الحرف مدحا. قوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) الهاء في (له) كناية عن إبراهيم (ع) " كلا هدينا " نصب كلا ب? (هدينا) و (نوحا هدينا من قبل) معناه هديناه قبل إبراهيم. وقوله (ومن ذريته داود وسليمان) تقديره وهدينا داود وسليمان نسقا على نوح. ويحتمل أن يكون قوله " ومن ذريته " الهاء راجعة إلى نوح لان الأنبياء المذكورين كلهم من ذريته. قال الزجاج ويجوز أن يكون من ذريته إبراهيم لان ذكرهما جميعا قد جرى، وأسماء الأنبياء التي جاءت بعد قوله " ونوحا هدينا من قبل " نسق على (نوح) نصب كلها، ولو رفعت على الابتداء كان صوابا. قال أبو علي الجبائي: الهاء لا يجوز أن تكون كناية عن إبراهيم، لان فيمن عدد من الأنبياء لوطا وهو كان ابن أخته، وقيل ابن أخيه، ولم يكن من ذريته. وهذا الذي قاله ليس بشئ، لأنه لا يمنع أن يكون غلب الأكثر. وجميع من ذكر من نسل إبراهيم، على أنه قال فيما روى عنه ابن مسعود أن الياس: إدريس، وهو جد نوح، ولم يكن من ذريته، ومع هذا لم يطعن على قول من قال: إنها كناية عن نوح. وقال ابن إسحاق: الياس هو ابن أخي موسى ويجوز أن تكون الهاء كناية عن إبراهيم ويكون من سماهم إلى قوله " وكل من الصالحين " من ذريته، ثم قال " وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا " فعطفهم على قوله " ونوحا هدينا ". وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله، لان عيسى جعله الله من ذرية إبراهيم أو نوح، وإنما كانت أمه من ذريتهما، والوجه في الآيات أن الله تعالى أخبر أنه رفع درجة إبراهيم بما جعل في ذريته من الأنبياء وجزاه بما وصل إليه من السرور والابتهاج عندما أعلمه عن ذلك وبما أبقى له من الذكر الرفيع في الاعقاب، والجزاء على الاحسان لذة وسرور من أعظم السرور وأكثر اللذات إذا علم الانسان بأنه يكون من عقبة وولده المنسوبين إليه أنبياء يدعون إلى الله ويجاهدون في سبيله ويكونون ملوكا وخلفاء يطيعون الله ويحكمون بالحق في عباد الله. ثم اخبر انه جزى نوحا بمثل ذلك على قيامه في الدعاء إليه والجهاد في سبيله. والهداية في الآيات كلها هو الارشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة، لأنه تعالى قال في آخر الآيات: " وكذلك نجزي المحسنين " فبين أن ذلك جزاء ولا يليق إلا بالثواب الذي يختص به المحسنون دون الهداية التي هي الدلالة ويشترك فيها المؤمن والكافر، وهو قول أبي علي الجبائي والبلخي. وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " إشارة إلى من تقدم ذكره من الأنبياء. وقوله " فان يكفر بها هؤلاء " يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت، " فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " معنى (وكلنا بها) اي وكلنا بمراعاة أو النبوة وتعظيمها والاخذ بهدي الأنبياء قوما ليسوا بها بكافرين. وإنما أضاف ذلك إلى المؤمنين وإن كان قد فعل بالكافرين أيضا إزاحة العلة في التكليف من حيث أن المؤمنين هم الذين قاموا بذلك وعملوا به فأضافه إليهم، كما أضاف قوله " هدى للمتقين " وإن كان هداية لغيرهم. وقيل في المعنيين بقوله " ليسوا بها بكافرين " ثلاثة أقوال:
أحدها: انه عنى بذلك الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي صلى الله عليه وآله في وقت مبعثهم وهو قول الحسن والزجاج والطبري والجبائي. قال الزجاج لقوله تعالى " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وذلك إشارة إلى الأنبياء الذين ذكرهم ووصفهم وامر النبي صلى الله عليه وآله بالاقتداء بهداهم.
الثاني: انه عنى به الملائكة، ذهب إليه أبو رجاء العطاردي.
وقال قوم: عنى به من آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في وقت مبعثه. وقال الفراء والضحاك: قوله " فان يكفر بها هؤلاء " يعني أهل مكة " فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " يعني أهل المدينة، والأول أقوى. وفى الآية دلالة على أن الله تعالى يتوعد من يعلم أنه لا يشرك ولا يفسق وان الوعد والوعيد قد يكونان بشرط. وقوله: " أولئك الذين هدى الله " معناه أولئك الذين حكم الله لهم بالهدى والرشاد، وزادهم هدى حين اهتدوا. والمراد به الأنبياء الذين تقدم ذكرهم الثمانية عشر. وأمر النبي صلى الله عليه وآله بأن يسلك سبيلهم ويأخذ بهداهم في تبليغ الرسالة والصبر على المحن وان يقول لقومه " لا أسألكم عليه اجرا " يعني على الأداء والابلاغ، ولكنه يذكر به العالمين وينبههم على ما يلزمهم من عبادة الله والقيام بشكره. وقوله (فبهداهم اقتده) قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب والكسائي عن أبي بكر بحذف الهاء في الوصل واثباتها في الوقف. الباقون باثباتها في الوصل والوقف وسكونها، إلا ابن ذكوان فإنه كسرها، ووصلها بياء في اللفظ وإلا هشاما فإنه كسرها من غير صلة بتاء، ولا خلاف في الوقف انها بالهاء ساكنة. قال أبو علي الفارسي الوجه الوقف بالهاء لاجتماع الكثرة، والجمهور على إثباته، ولا ينبغي أن يوصل والهاء ثابتة، لأنه هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء. قال أبو علي وقراءة ابن عامر بكسر الهاء وإشمام الهاء الكسرة من غير بلوغ ياء ليس بغلط، ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق للوقف. وحسن اضماره لذكر الفعل الدال عليه، ومثل ذلك قول الشاعر:
فجال على وحشية وتخاله * على ظهره سبأ حديدا يمانيا
كأنه قال تخال خيلا على ظهره سبأ حديدا، ومثل ذلك قول الشاعر: هذا سراقة للقرآن يدرسه * والمرؤ عند الرشا أن يلقها ذئب (2) فالهاء كناية عن المصدر، ويدل يدرسه على الدروس، ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن، لان الفعل قد تعدى إليه باللام، فلا يجوز أن يتعدى إليه والى ضميره كما أنك إذا قلت أزيدا ضربته لم ينصب زيدا بضربت لتعديه إلى الضمير، وقياسه إذا وقف عليه أن يقول اقتده فيكسر (هاء) الضمير، كما تقول اشتره في الوقف. وفي الوصل اشتريه لنا يا هذا. واستدل قوم بقوله (فبهداهم اقتده) على أن النبي صلى الله عليه وآله كان متعبدا بشريعة من قبله من الأنبياء وهذا لا دلالة فيه، لان قوله (فبهداهم اقتده) معناه فبأدلتهم اقتده. والدلالة ما أوجبت العلم ويجب الاقتاء بها، لكونها موجبة للعلم لا غير ولذلك قال تعالى (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) فنسب الهدى إلى نفسه، فعلم بذلك أنه أراد ما قلناه. وقوله (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يدل على أن الهدى في قوله (واجتبيناهم وهديناهم) هداية الثواب على الأعمال الصالحة، لان الثواب على الاعمال هو الذي ينحبط تارة ويثبت أخرى دون الهداية التي هي الأدلة الحاصلة للمؤمن والكافر. وقوله (وكلا فضلنا على العالمين) يعني على عالمي زمانهم الذين ليسوا أنبياء وإنما دخلت (من) في قوله " من آبائهم وذرياتهم " للتبعيض كأنه قال: وبعض آبائهم وبعض ذرياتهم وبعض اخوانهم هديناهم ولو لم تدخل (من) لاقتضى انه هدى جميعهم الهداية التي هي الثواب، والامر بخلافه. وقوله " اجتبيناهم " معناه اخترناهم. وقوله (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) لا يدل على صحة ثواب طاعاتهم التي أشركوا في توجيهها إلى غير الله لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، فأما ما تقدم فليس في الآية ما يقتضي بطلانه غير أنا قد عملنا أنه إذا أشرك لا ثواب معه أصلا، لاجماع الأمة على أن المشرك لا يستحق الثواب، فلو كان معه ثواب وقد ثبت أن الاحباط باطل، لكان يؤدي إلى أن معه ثوابا وعقابا، لأنا قد بينا بطلان القول بالتحابط في غير موضع وذلك خلاف الاجماع.1- معاني القرآن 1 / 342 وشواهد المغني 60 وخزانة الأدب 1 / 327 وتفسير الطبري 11 / 511، وأمالي ابن الشجري 1 / 154 و 2 / 252، 342. من شعر يمدح به الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
2- اللسان " سرق ".