4 - الفريق الرابع: العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى

وهذا الفريق يتمثل في عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) فقد هذب عبد القاهر من المفاهيم المرتجلة لدلالة الألفاظ والمعارف وأقامها على أصل لغوي وعلمي رصين، وأدرك مسبقاً سر العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، ورفض القول بإيثار أحدهما على الآخر، واعتبرهما بما لهما من مميزات وخصائص واسطة تكشف عن الصورة، فقال بالنظم تارة، وبالتأليف تارة أخرى، مما لم يوفق إليه الفرقاء في النزاع، والملاحظة عنده أن النظم عبارة عن العلاقة بين الالفاظ والمعاني، وأنها تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل (1).

وقد يخيل للبعض أن عبد القاهر من أنصار المعنى دون اللفظ نظراً لتهجمه على القائلين بأولوية اللفظ، وليست الألفاظ عنده (إلا خدم المعاني) (2)، ولكن عبد القاهر يشن هذه الحملات، ويصول ويجول في قلمه وما يضربه من أمثلة وشواهد، وما يقرره من قواعد، لا انتصاراً للمعنى، وإنما هو تفنيد لآراء القوم وتدليل على مفهوم الصورة عنده بالنظم، ولا نظم في الكلم وترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك) (3).

ويعود عبد القاهر بالنظم إلى أصل قائم على أساس من علم النحو، وطبيعي أن النحو يعني ببناء الكلمة وإعرابها، ومعرفة هذه الصيغة - وإن كانت منصبة على اللفظ - فإنها ترتبط بمعنى اللفظ في وضعه بمكانه من المعنى المراد، لأن المعاني لا يحل إبهامها ما لم يقصد إليها من خلال الألفاظ، والألفاظ لا يفهم مؤداها مالم تضبط صياغة وتصريفاً ونحواً بناء وإعراباً على حد سواء، وهما متعاونان معاً على كشف العلاقة التي عبر عنها بالنظم و (ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه على النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف منهاجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء) (4) متخذاً بالإضافة إلى هذا التشبيه والمجاز والاستعارة مضماراً لشرح آرائه، وميداناً لاستدراكاته على أصحاب اللفظ، وأن النظر إلى هذه المقومات اللفظية بأقسامها وأنواعها لا يعود لألفاظها فحسب، وإنما للمعاني وما تضفيه على الألفاظ مما يكون حسن النظام وجوده التأليف، وهو العلاقة المترتبة على فهم القسيمين اللفظ والمعنى (5).

وحقاً إنك لتجد عبد لقاهر قوي الحجة، عجيب المناظرة، في جولته النقدية هذه، فلا تكاد تنتهي من فصل سفرية حتى تقع في فصل مثله، يزيدك سخرية بأولئك جرحاً وتقويماً، وإرجاعاً بآرائهم إلى ما اعتادوه دون روية وتمييز من شغف بالبديع وتعلق بالصناعة، حتى ليصعب فهم ما يقصدون من الكلام، فالسامع يخبط في عشواء، من كثرة التكلف وشدة التمحل، وهو يقرر هذا المعنى بقوله: إن في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن يثقل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسهم.

والحملة على المحسنات البديعية لا تقلل من أهمية اللفظ، ومنزلته في تقويم المعنى، ولكن الإغراق بأصناف البديع يجعل اللفظ فارغاً إلا من جمال الهيئة الذي قد يعود وبالاً على اللفظ، كما تعود أشتات الحلي ثقلاً على الحسناء يوردها التلف.

ومن خلال ما تقدم تتضح أبعاد المعركة النقدية بين اللفظ والمعنى، وقد تجلى فيها أن الجاحظ والعسكري معنيان بحسن الصياغة وجزالة الألفاظ وقد عللنا هذا الرأي بصدوره عن دوافع نفسية وسياسية وقومية، انتهت بأناقة اللفظ وجرس الكلمة.

ولا حظنا بعد ذلك المقاييس النقدية عند ابن قتيبة بإرجاعها القيمة الفنية إلى القسيمين اللفظ والمعنى، واتفقنا معه في أصل الحكم والموضوع وناقشنا عن صحة تطبيقه لهذا الحكم.

ووقفنا عند رأي ابن رشيق في عدم الفصل بين اللفظ والمعنى وتكوينهما للوحدة الفنية في أي نموذج أدبي، وصاحبنا سيرورة هذا الرأي عند القدامى والمحدثين الغربيين والعرب، واستأنسنا بآراء ثلاثة من النقاد العرب: الشايب وطبانة وضيف، ووقفنا مع الأخير وقفة المقوم لرأيه والقائل بتفصيله ورسمنا من خلال ذلك انطلاقنا في تحديد أبعاد القضية، ثم عرضنا لرأي عبد القاهر، واختتمنا الموضوع بلقطات من كلامه وشذرات من تحقيقاته، ورأينا أن له الفضل في كشف العلاقة بين اللفظ والمعنى بما لهما من مميزات متنافرة، وانتهينا عنده بالتعبير بالنظم وحسن التاليف عن الصورة الأدبية.


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 40.

2- المصدر نفسه، وأسرار البلاغة: 5.

3- دلائل الإعجاز: 43.

4- المصدر نفسه: 61.

5- الجرجاني، أسرار البلاغة: 6.