3 - الفريق الثالث: وحدة اللفظ والمعنى

ويتمثل بابن رشيق (ت 456 هـ) فقد اعتبر اللفظ والمعنى شيئاً واحداً متلازماً ملازمة الروح للجسد، فلا يمكن الفصل بينهما بحال، قال: (اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه..فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه) (1).

ويبدو لي أن هذا النوع من التعقيد والتقرير أقرب إلى القصد والاعتدال منه إلى التمحل والتعقيد، فالصورة عند ابن رشيق لا تكون واضحة الرؤية خصبة التخطيط إلا من خلال عنايتها باللفظ لتجعله الوسيط الدال على المعنى المراد لأكيد الصلة ووشيج النسب بينهما (لأن التفكير في اللفظ والمعنى تفكير جملي يفكر فيه الأديب مرة واحدة وبحركة عقلية واحدة، فإذا رتبت المعاني في الذهن ترتيباً منطقياً، وإذا تحددت في الفكر تحديداً يجمعه ترابط المعاني وتداعيها، هذا الترابط وهذا التداعي الذي يرضاه المنطق أو يرضاه حسن الأديب، انحدرت هذه المعاني على اللسان بألفاظها الملائمة بها خطابة، وانحدرت على القلم بألفاظها المطاوعة لها كتابة وشعراً من غير تهذيب واختيار لهذه الألفاظ) (2).

وهذا المنهج الذي اختطه ابن رشيق تكاد تنجذب له نفوس قسم من النقاد القدامى والمعاصرين، ففي طليعة القدماء ابن الأثير، الذي يرى أن عناية العرب بالفاظها إنما هو عناية بمعانيها، لانها أركز عندها وأكرم عليها، وإن كان يسوغ بل يعترف أن عناية الشعراء منصبة على الجانب اللفظي، ولكنها وسيلة لغاية محمودة وهي إبراز المعنى صقيلاً، فإذا رايت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، ورققوا حواشيها، وصقلوا أطرافها، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني (3).

ولا تفسر هذه المحاولة من ابن الأثير بالاقتداء بخطوة ابن رشيق وهي وإن لم تصرح بمزج اللفظ والمعنى في قالب واحد، ولكنها تشير إلى قيمة المضمون والشكل معاً في صقل الصورة، وتلمح إلى طبيعة التلاؤم بينهما.

وقد لاقى هذا الاتجاه سيرورة وانتشاراً عند كثير من النقاد المحدثين - وإن لم يثبت اطلاعهم عليه، لأنهم لا يشيرون إلى مصدره وكأنهم مبتكرون - فربطوا بين اللفظ والمعنى حتى ليخيل إليك أنهما شيء واحد، وحدبوا على تطوير نظرتهم هذه وصعدوا بها إلى مستوى الحقائق الثابتة من خلال إشباع البحوث استدلالاً لها، ونسجاً على منوالها، حتى أخذت طريقها إلى مستوى النظريات والصيغ النهائية.

يرى الناقد الفرنسي دي جورمون (أن الأسلوب والفكر شيء واحد، وإن من الخطأ محاولة فصل الشكل عن المادة) (4).

وطبيعي أنه ينظر إلى الألفاظ بأنها أساليب وإلى المعاني بأنها أفكار، ثم يخطئ القائلين بفصل تلك الألفاظ عن هذه المعاني.

ويقول (دونالد استوفر) باتحاد الشكل والمحتوى، ويرى فيهما شخصية واحدة لا يمكن أن ينظر إلى أجزائها في استيعابها وتحديد النظرة الفاحصة إليها فيقول: إن القصيدة تتمتع بشخصية متماسكة حية، وأنها وحدة تتألف من عناصر مختلفة كثيرة، وهي متماسكة ومتوازنة، من حيث الشكل والمحتوى بل يتداخل فيها الشكل والمحتوى على نحو لا يمكن معه تصور كل منهما على حد) (5).

ويعتقد الناقد الأمريكي (كلينث بروكس) باستحالة فصل المادة عن الشكل وبالعكس في أي حال من الأحوال لأن تركيبها قد اتحد فلا يبرز إلا كلا موحداً فيقول (إن جوهر القصيدة لا يبرز إلا كلاً موحداً، أي يستحيل علينا تجريد الجوهر وصياغته في شكل آخر، لأن الجوهر في هذه الحالة هو المركب الجديد من بناء لا ينفصل عن موسيقاه، والصور والدلالات المتشابكة والمواقف المعينة، أي القصيدة ذاتها) (6).

هكذا كانت النظرة بالنسبة للنقاد الغربيين، فإذا استقبلنا النقاد العرب المعاصرين وجدنا الفكرة أعمق رسوخاً، وأصلب عوداً، والنظرة أفحص إمعاناً، وأكثر ذيوعاً، تارة بالاتحاد بينهما، وأخرى بعدم الانفصال، وثالثة بوحدة المؤدى بين الشكل والمحتوى.

يرى الأستاذ أحمد الشايب عدم إمكانية فصل القيمة الفنية بين اللفظ والمعنى ويرى كلاً منهما انعكاساً للآخر بسبب (شدة الارتباط بين المادة والصورة أو بين اللفظ والمعنى، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية، والخيال واللفظ من ناحية ثانية، إذ كان هذان صورة لذينك، وأي تغيير في المادة يستتبع نظيره في الصورة والعكس صحيح) (7).

ويرى الدكتور بدوي طبانة أن اللفظ والمعنى حقيقتان متحدتان، ومنزلتهما واحدة لا تمايز بينهما، والعناية بأحدهما عناية بالطرف الآخر، والاهتمام يجب أن يقسم عليهما بالتساوي لأنه اهتمام بالعمل الأدبي وزنة للقيمة الفنية فيقول: (وليست منزلة المعنى دون منزلة اللفظ في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي، ولا شك عند المنصفين أن وجوب مراعات جانب المعنى لا يقل شأناً عن وجوب الاهتمام بالالفاظ) (8).

وقد أبدى الدكتور شوقي ضيف اهتماماً كبيراً بالمسألة، ووجه لها عنايته الفائقة، وأعار لها الصفحات العديدة في كتابه (النقد الأدبي) وتوصل إلى أن الفصل بين اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون أمر مستحيل...(فليس هناك محتوى وصورة، بل هما شيء واحد، ووحدة واحدة، إذ تتجمع في نفس الأديب الفنان مجموعة من الأحاسيس ويأخذ تصويرها بعبارات يتم بها عمل نموذج أدبي، وأنت لا تستطيع أن تتصور مضمون هذا النموذج أو معناه بدون قراءته، وكذلك لا تستطيع أن تتصور صورته أو شكله أو لفظه، دون أن تقرأه، فهو يعبر عن الجانبين جميعاً مرة واحدة، وليسا هما جانبين، بل هما شيء واحد، أو جوهر واحد ممتزج متلاحم، ولا يتم نموذج فني باحدهما دون الآخر...وإذن فلا فارق بين المعنى والصورة أو اللفظ في نموذج أدبي...ومعنى ذلك أن مادة النموذج الأدبي وصورته لا تفترقان فهما كل واحد.وهو كل يتألف من خصائص جمالية مختلفة، قد يردها النظر السريع إلى الخارج أو الشكل، ولكننا إن أنعمنا النظر وجدناها ترد إلى الداخل والمضمون، فهي تنطوي فيه، أو قل تنمو فيه...وإذن فكل ما نلقاه في كتب البلاغة من وصف اللفظ إن تأملنا فيه وجدناه في حقيقته يرد إلى المعنى، حتى الجناس وجرس الألفاظ، فضلاً عما توصف به الكلمات من ابتذال أو غرابة.والمضمون بهذا المعنى يتحد مع الشكل، فهو البناء الأدبي كله وهو الحقائق والأحاسيس النفسية الكامنة فيه) (9).

وهذه اللقطات مما خطط له شوقي ضيف، وعزاه إلى أصحاب الفلسفة الجمالية، يفتح آفاقاً جديدة في مفهوم الصورة الأدبية ودلالتها، إذ يتخطى بها الشكل إلى المضمون، فيعتبرها وحدة متماسكة الأجزاء، متناسقة الأعظاء.والطريف فيه أن يعود بالمحسنات البديعية وأجناس التصنيع على المعنى في خلق الصورة، ويرتبط بين موسيقية اللفظ وجرس الكلمة وبين إرادة المعنى في بناء الهيكل الأدبي للنص.ومن هنا - ويتحدد انطلاقنا مع الصورة الأدبية في أبعادها - كان لزاماً علينا أن نبحث بناء القصيدة في شكلها الخارجي باعتباره الإطار التكويني لمادة القصيدة، ومادة القصيدة باعتبارها المحتوى الذي ازدحمت - نتيجة له - الأشكال والرسوم الأولية لهيكل القصيدة العام الذي يتبلور به الجمال التخطيطي لها، بغية أن تكون معالم الرؤية بينة السمات للصورة الأدبية من خلال هذا التلاحم العضوي والاتصال الفعلي بين الصيغة الظاهرية والقيم الكامنة في المعاني التي جسدت حقيقتها الألفاظ.

وقد يبدو هذا بعيداً عن مجال الصورة الأدبية، باعتبارها الشكل الناطق والمعبر، ولكن نظرة فاحصة لبناء القصيدة - في هذا الشكل الناطق والمعبر - تغني عن الأطناب، وتكفي دلالة في التأكيد أن هذا الشكل نطق وعبر بما احتوى من مادة ولم يكن هيكلاً فارغاً عقيم الاصداء، وإنما استقام سوياً متكاملاً بهذه العلاقة واللحمة الطبيعية بينه وبين المضمون فعاد متجاوب الأجراس.

وامر آخر يقرب من الموضوع ويتابع من خطوه، هو أن الإيقاع الموسيقي والميزان العروضي، ليسا من المعاني والألفاظ في شيء فهما خارجان عن هاتين الحقيقتين، ولكنهما متداخلان معهما، وملازمان لهما، ولا ينعدمان في الدلالة على الصورة في القصيدة، وإن كانا شيئاً والقصيدة في محتواها شيئاً آخر.

والحق أن إدراك هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى، واعتبارهما وحدة متجانسة في دلالتها على الصورة، يمكن اعتباره امتداداً منطقياً لجزء مهم من رأى الفريق الرابع من فرقاء المعركة.


1- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: 1|124.

2- إبراهيم سلامة، بلاغة ارسطو بين العرب واليونان: 151 ـ 152.

3- ابن الأثير، المثل السائر: 1|353.

4- وليم فان أوكونور، النقد الأدبي: 102.

5- حياة جاسم، وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي: 151.

6- محمد محمد، النقد التحليلي: 114.

7- أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي: 246.

8- بدوي طبانة، دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث: 138 ـ 139.

9- شوقي ضيف، في النقد الأدبي: 163 ـ 165.