الآية 54

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: " انه من عمل.. فإنه غفور رحيم " بفتح الهمزة فيهما وافقهم أهل المدينة في الأولى منهما. الباقون بالكسر فيهما. قال أبو علي الفارسي من كسر (أنه) الأولى جعلها تفسير للرحمة كما أن قوله " لهم مغفرة واجر كريم " تفسير للوعد. واما كسر (إن) في قوله " فإنه غفور رحيم " فلان ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثم حمل قوله " ومن عاد فينتقم الله منه " (1) على إرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه. ومن فتح (أن) في قوله " انه " فإنه جعل (ان) الأولى بدلا من الرحمة كأنه قال كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم. واما فتحها بعد الفاء فإنه غفور رحيم، فعلى انه أضمر له خبرا تقديره، فله انه غفور رحيم أي فله غفرانه. أو اضمر مبتدأ تكون (أن) خبره، كأنه قال فأمره انه غفور رحيم واما قراءة نافع: بفتح الأولى وكسر الثانية فالقول فيهما انه أبدل من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء. قال سيبويه: بلغنا ان الأعرج قرأ " انه من عمل... فإنه غفور رحيم ". ونظيره قول ابن مقبل:

واني إذا ملت ركابي مناخها * فاني على حظي من الامر جامح

يريد ان قوله: (واني إذا ملت ركابي) محمول على ما قبله كما أن قوله " انه من عمل " محمول على ما قبله. وقوله: فاني على حظي مستأنف مثل قوله " فإنه غفور رحيم " مستأنف به منقطع عما قبله. قال الفراء: واختاره الزجاج ويجوز ان يحمل (فإنه) على التكرار، قال: لان الكتاب يحتاج إلى (ان) مرة واحدة ولكن الخبر هو موضعها فلما دخلت في ابتداء الكلام أعيدت إلى موضعها، كما قال: " أيعدكم انكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون " (2) فلما كان موضع (ان) أيعدكم انكم مخرجون إذا متم دخلت في أول الكلام وآخره. ومثله " كتب عليه انه من تولاه فإنه يضله " (3) ومثله " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له " (4) قال ولك ان تكسر (ان) بعد الفاء في هذه الأحرف. قال أبو علي هذا غير صحيح، لان (من) لا يخلو من أن تكون للجزاء الجازم الذي بني اللفظ عليه أو تكون موصولة، ولا يجوز ان يقدر التكرير مع الموصولة فلو كانت موصولة لبقي المبتدأ بلا خبر، ولا يجوز ذلك في الجزء الجازم، لان الشرط يبقى بلا جزاء على اثبات الفاء في قوله: (فان له) ويمتنع من أن يكون بدلا لأنه لا يكون بين المبدل والمبدل منه الفاء العاطفة ولا التي للجزاء، فان قيل: هي زائدة بقي الشرط بلا جزاء، فإذا بطل الا مران ثبت ما قدمناه. واما من كسرهما فعلى مذهب الحكاية كأنه لما قال " كتب ربكم على نفسه الرحمة " قال: " انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم " بالكسر، ودخلت الفاء جوابا للجزاء. هذه الآية متصلة بالأولى: نهى الله تعالى نبيه (ع) في الأولى عن أن يطردهم. ثم امره في هذه الآية ان يقول لمن ورد عليه منهم أعني المؤمنين المصدقين بآيات الله وحججه وبراهينه عربيا كان أو أعجميا ضعيفا كان أو قويا - " سلام عليكم " فيبدأهم بالتحية، ويبشرهم بالرحمة ويقوي قلوبهم ويعرفهم أن من أذنب منهم ثم تاب، فتوبته مقبولة كل ذلك خلافا على الكافرين فيما أرادوه عليه من طردهم والغلظة عليهم. وقال محمد بن يزيد: السلام في اللغة أربعة أشياء:

أحدها: سلمت سلاما مصدر.

وثانيها: السلام جمع سلامة.

ثالثها: السلام من أسماء الله.

رابعها: السلام شجر. ومعنى السلام الذي هو مصدر سلمت دعاء للانسان ان يسلم في دينه ونفسه، ومعناه التخلص. والسلام الذي هو اسم الله معناه ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه. والسلام الذي هو الشحر، فهو شجر عظيم سمي بذلك لسلامته من الآفات. والسلام حجار صلبة لسلامتها من الرخاوة ويسمى الصلح: السلام والسلم والسلم، لان معناه السلامة من الشر. والسلام دلولها مروة واحدة نحو دلو السقائين. والسلم السبب إلى لشئ. والسلم الذي يرتقى عليه لأنه يسلمك إلى حيث تريد وقوله " من عمل منكم سوءا بجهالة " ليس المراد أنهم يجهلون أنه سوء، لأنه لو أتى المسلم ما يجهل أنه سوء لكان كمن لم يتعمد سوءا. وتحتمل الآية أمرين:

أحدهما: انه عمله وهو جاهل بالمكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروه.

والآخر: انه أقدم مع علمه ان عاقبته مكروهة فآثر العاجل، فجعل جاهلا لأنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعاقبة الدائمة ويحتمل عندي أن يكون أراد " من عمل منكم سوءا بجهالة " بمعنى أنه لا يعرفها سوءا، لكن لما كان له طريق إلى معرفته وجب عليه التوبة منه، فإذا تاب قبل الله توبته. فان قيل: قوله " وأصلح " هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أولا؟ فإن لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما. قيل: لا خلاف أن التوبة متى حصلت على شرائطها التي قدمنا ذكرها في غير موضع، فإنه يقبل التوبة ويسقط العقاب، وان لم يعمل بعدها عملا صالحا غير أنه إذا تاب وبقي بعد التوبة، فإن لم يعمل الصالح عاد إلى الاصرار، لأنه لا يخلو في كل حال من واجب عليه أو ندب من تجديد معرفة الله ومعرفة نبيه، وغير ذلك من المعارف وكثير من أفعال الجوارح، فاما ان قدرنا اختراعه عقيب التوبة من غير فعل صلاح، فان الرحمة باسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف.

1- سورة 5 المائدة آية 98.

2- سورة 23 المؤمنون آية 35.

3- سورة 22 الحج آية 4.

4- سورة 9 التوبة آية 64.