2 - الفريق الثاني: الجمع بين اللفظ والمعنى

وذهب الفريق الثاني وفي طليعته ابن قتيبة (ت 276 هـ) إلى القول بالجمع بين اللفظ والمعنى مقياساً في البلاغة، وميزاناً للقيمة الفنية، فرأى أن الشعر يسمو بسموهما وينخفض تبعاً لهما، وقد قسم الشعر إلى أربعة أضراب:

1 - ضرب حسن لفظه وجاد معناه.

2 - ضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.

3 - ضرب منه جاد معناه، وقصرت ألفاظه.

4 - ضرب منه تأخر معناه، وتأخر لفظه (1).

فاللفظ والمعنى عند ابن قتيبه يتعرضان معاً للجودة والقبح، ولا مزية لأحدهما على الآخر، ولا استئثار بالأولوية لأحد القسيمين، فقد يكون اللفظ حسناً وكذلك المعنى، وقد يتساويان في القبح، وقد يفترقان.

ولم يعدم ابن قتيبة الموافقين له على رأيه، وفيه من الوجاهة ما يدعمه، فقد سار على منهاجه قدامة بن جعفر في نقد الشعر وتحدث عن اللفظ والمعنى، وجعلهما قسيمين في تحمل مظاهر القبح وملامح الجودة فيما أورده من آراء في عيوب الالفاظ والمعاني (2).

وإذا وافقنا ابن قتيبة في تقرير الموضوع الأصل وهو سليم جداً، فإننا نخالفه في طبيعة فهمه، وتطبيق الحكم على النماذج التي أختارها دليلاً على صحة دعواه.ولا سيما في الضرب الثاني الذي حسن لفظه وقصر معناه، فإنه يستشهد بهذه الأبيات (3).

ولما قضينا من منى كل حاجة * ومسح بالاركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهاري * رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث * بينا وسالت بأعناق المطي الأباطح

ثم يعقب عليها ناقداً ومعلقاً بقوله (هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام متى، واستلمنا الاركان، وعالينا إبلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي منهم الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح (4).

فابن قتيبة ببساطة يحكم على سذاجة المعنى، ويدعي في الألفاظ سلس العبارة، وجودة المخارج، وحسن المقاطع، ولكنني ألمس مخالفته في الموضعين:

أ - اعتبر الألفاظ في سياقها جيدة المخارج والمقاطع والمطالع، وقد يكون بعضهما كما رأى، ولكن أقل ما قبح البعض الآخر مجتمعاً توالي حروف الحلق في حاءاتها وهاءاتها والعين والغين مما يمنع تقاطرها في النطق وانصبابها في التحدث إلا بتكلف، وهي على وجه الضبط: حاجة، ومسح، هو، ماسح، على، حدب، المهارى، رحالنا، الغادي، هو، رائح، الأحاديث، أعناق، الأباطح، فما رأيك في أبيات عدة ألفاظها ثلاثون لفظاً اشتمل منها أربعة عشر لفظاً على حروف مخرجها واحد لا يتعداه وهو الحلق أو أقسى الحلق؟ فأين حسن المخارج والمقاطع يا ترى؟.

ب - أما المعاني وقد عابها، ونثرها نثراً سوقياً، فلا حاجة إلى بيان ما اشتملت عليه من رقة وزهو وسلاسة لا سيما في البيت الثالث منها، ويكفي أن أحيلك على عبد القاهر في كشف جمالها وبيان روعتها، فقد تناولها بالتعليق في قوله: إن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: (ولما قضينا من منى كل حاجة) فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسنتها من طريق أمكنه أن يقصر سعة اللفظ وهو طريقة العموم: ثم نبه بقوله: (ومسح بالأركان من هو ماسح) على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان، ثم دل بلفظة (الأطراف) على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطوفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه إلفة الأصحاب، وأنسة الأحباب، وكيف يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب..ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق بها معضل التشبيه...فصرخ أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حالة التوجه إلى المنازل وأخبر بعد بسرعة السير، ووطأة الظهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح...) (5).

وما أبديناه بالنسبة للألفاظ، وما قرره عبد القاهر بالنسبة للمعاني، كان سبب مخالفتنا لابن قتيبة في التطبيق، وموافقتنا له في الحكم وعموم الأصل.


1 - ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 7 ـ 9.

2 - قدامة، نقد الشعر، الفصل الثالث: 194 ـ 214.

3 - تنسب الأبيات إلى كثير غزة كما في الديوان: 525، وقيل لابن الطثرية وقيل للمضرب كما في معاهد التنصيص: 241. وتنسب للمضرب وحده كما في أمالي المرتضى: 1|458، وإلى هؤلاء وغيرهم كما في تخريج هامش أسرار البلاغة: 21، رقم 25.

4 - ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 8.

5 - الجرجاني، أسرار البلاغة: 22 ـ 23.