الآيات 40-41

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾

القراءة:

قرأ الكسائي وحده " أريتكم " وما جاء منه إذا كان استفهاما بحذف الهمزة التي بعد الراء. والباقون باثباتها، وتخفيفها الا أهل المدينة، فإنهم جعلوها بين بين، فإن كان غير استفهام اتفقوا على اثبات الهمزة وتخفيفها الا ما رواه ورش في تحقيقها في ستة مواضع ذكرت في باب الهمزة في القراءات. من حقق الهمزة، فلانه (فعلت) من الرؤية، فالهمزة عين الفعل، ومن خفف فإنه جعلها بين بين، وهذا التخفيف على قياس التحقيق، ومن حذف الهمزة فعلى غير مذهب التخفيف، لان التخفيف القياس فيها أن تجعل بين بين، كما فعل نافع، وهذا حذف، كما قالوا، ويلمه، وكما أنشد أحمد بن يحيى: ان لم أقاتل فالبسوني برقعا وقال أبو الأسود: يابا المغيرة رب أمر معضل وذكر أن عيسى كذلك كان يقرأها ويقوي ذلك قول الراجز:

أريت ان جاءت به أملودا * مرجلا ويلبس البرودا

وقال الفراء: العرب لها في (أرأيت) لغتان:

أحدهما: ان يسأل الرجل الرجل أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة، فإذا أوقعتها على الرجل منه قلت: أرأيتك على غير هذه الحال تريد هل رأيت نفسك على غير هذه الحال ثم يثنى ويجمع، فتقول للرجلين أرايتماكما، وللقوم أرأيتموكم، وللنسوة أرأيتنكن، وللمرأة أرأيتك بخفض التاء ولا يجوز إلا ذلك.

والآخر: ان تقول أرأيتك. وأنت تريد اخبرني، فتهزمها وتنصب التاء منها وتترك الهمز ان شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء مفتوحة للواحد، وللجمع مؤنثه ومذكره، تقول للمرأة: أرأيتك زيدا، وللنساء أرايتكن زيدا ما فعل. وإنما تركت العرب التاء واحدة لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعا على نفسها، فاكتفوا بذكرها في الكاف ووجهوا التاء إلى المذكر والتوحيد، إذا لم يكن الفعل واقعا على نفسها. واختلفوا في هذه الكاف، فقال الفراء: موضعها نصب وتأويلها رفع، مثل قولك: دونك زيدا، فموضع الكاف خفض، ومعناه الرفع، لان المعنى خذ زيدا. قال الزجاج: هذا خطأ ولم يقله أحد قبله، قال: لان قولك أرايتك زيدا ما شأنه يصير أرأيت قد تعدت إلى الكاف والى زيد، فنصب أرأيت اسمين فيصير المعنى: أرأيت نفسك زيدا ما حاله. وهذا محال. قال والصحيح الذي عليه النحويون ان الكاف لا موضع لها والمعنى أرأيت زيدا ما حاله، والكاف زيادة في بيان الخطاب، وهو المعتمد عليه في الخطاب ولذلك تكون التاء مفتوحة في خطاب المذكر والمؤنث والواحد والجمع. فنقول للرجل أرايتك زيدا ما حاله بفتح التاء والكاف وللمرأة أرايتك بفتح التاء وكسر الكاف، لأنها صارت آخر ما في الكلمة، وللاثنين أرايتكما، وللجمع أرايتكم، فتوحد التاء، فكما وجب ان توحدها في التثنية والجمع، كذلك وجب ان تذكرها مع المؤنث، فان عديت الفاعل إلى المفعول في هذا الباب صارت الكاف مفعوله تقول: رأيتني عالما بفلان، فإذا سألت علي هذا الشرط قلت للرجل: أريتك عالما؟ وللاثنين أرأيتما كما وللجمع أرأيتموكم، لان هذا في تأويل أرأيتم أنفسكم، وللمرأة أرأيتك، وللثنتين أرايتماكما، وللجماعة أرايتنكن، فعلى هذا قياس هذين البابين. قال أبو علي الفارسي: لا يخلو أن يكون الكاف للخطاب مجردا، ومعنى الاسم مخلوعا منه أو يكون دالا على الاسم مع دلالته على الخطاب، والدليل على أنه للخطاب مجردا من علامة الاسم أنه لو كان اسما وجب أن يكون الاسم الذي بعده في نحو قوله " أرايتك هذا الذي كرمت علي " (1) وقولهم " أريتك زيدا ما صنع هو الكاف في المعنى، ألا ترى ان (رأيت) يتعدى إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى وإذا لم يكن المفعول الذي بعده هو الكاف في المعنى، وإنما هو غيره وجب ان يدل ذلك على أنه ليس باسم، وإذ لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية، كما أن الكاف في (ذلك وهنالك) للخطاب ومثله التاء في (أنت) لأنه للخطاب معرى من معنى الاسم فإذا ثبت انه للخطاب معرى من معنى الأسماء ثبت ان التاء لا يجوز أن تكون بمعنى الخطاب ألا ترى أنه لا ينبغي ان يلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لا يلحقها علامتان للتأنيث، ولا علامتان للاستفهام، فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لابد له من فاعل وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد، لان ما يلحق الكاف من معنى الخطاب يبين الفاعلين، لتخصيص التأنيث من التذكير والتثنية من الجمع، فلو لحق علامة التأنيث والجمع التاء لاجتمع علامتان للخطاب بما كان يلحق التاء وما يلحق الكاف وذلك يؤدي إلى ما لا نظير له فرفض لذلك. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الآية ان يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام " أرايتكم ان أتاكم عذاب الله " كما اتى الكافرين من قبلكم كعاد وثمود، وغيرهم " أو اتتكم الساعة " وهي القيامة. قال الزجاج: الساعة اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد واسم للوقت الذي تبعث فيه، والمعنى أرأيتكم الساعة التي وعدتم فيها بالبعث والفناء، لان قبل البعث يموت الخلق كلهم، أتدعون فيها - لكشف ذلك عنكم - هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها ولا غيرها ؟ ! أو تدعون لكشف ذلك عنكم الله تعالى الذي هو خالقكم ومالككم ومن يملك ضركم ونفعكم؟ ودلهم بذلك على أنه لا ينبغي لهم ان يعبدوا ما لا يملك لهم نفعا ولا يقدر أن يدفع عنهم ضرا وان يعبدوا الله وحده الذي هو خالقهم ومالكهم والقادر على نفعهم وضرهم. وقوله " ان كنتم صادقين " يعني في أن هذه الأوثان آلهة لكم، فبين الله لهم بذلك انها ليست آلهة وانهم في هذا القول غير صادقين. وقوله " بل إياه تدعون " معنى (بل) استدراك وايجاب بعد نفي تقول ما جاءني زيد بل عمرو. واعلمهم الله تعالى انهم لا يدعون في حال الشدائد الا إياه، لأنه إذا لحقهم الشدائد والأهوال في البحار والبراري القفار، التجئوا فيه إليه وتضرعوا لديه، كما قال " وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين " (2) وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام. وقوله " فيكشف ما تدعون إليه ان شاء " معناه يكشف الضر الذي من اجله دعوتم، وهو مجاز كقوله " واسأل القرية " ومعناه واسأل أهل القرية. وقوله " وتنسون ما تشركون " معنى تنسون يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون بمعنى ما تشركون بالله.

الثاني: أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من نسيهم، وهذا الذي أحتج الله به على الكفار دلالة على صحة الاحتجاج في الدين على كل من خالف الحق، لأنه لو كان الاحتجاج لا يجوز ولا يفضي إلى الحق لما احتج به على عباده في كتابه. وإنما قال: " ان شاء " لأنه ليس كلما يدعون لكشفه يكشفه عنهم بل يكشف ما شاء من ذلك مما تقتضيه المصلحة وصواب التدبر، وتوجبه الحكمة. والاستثناء راجع إلى العذاب دون الساعة، لأنها لا تكشف ولا محيص عنها.

1- سورة 17 الاسرى آية 62.

2- سورة 10 يونس آية 22.