سورة الأعراف / 150 و 157
﴿من بعده﴾ أي: من بعد خروجه إلى الطور ﴿من حليهم﴾ التي استعاروها من قوم فرعون وبقيت في أيديهم بعد هلاك فرعون وقومه، فاتخذ السامري منها ﴿عجلا جسدا﴾ لا روح فيه، وهو بدل من ﴿عجلا﴾، ﴿له خوار﴾ أي: صوت، والحلي جمع حلي (1)، وقرئ: " حليهم " بكسر الحاء (2) على الاتباع، و " من حليهم " على التوحيد (3)، وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة (4)، وقيل: كان جسدا ذا لحم ودم كسائر الأجساد (5)، وعن الحسن: أن السامري قبض قبضة من تراب أثر حافر فرس جبرئيل يوم قطع البحر فقذفه في في (6) العجل فكان عجلا له خوار (7) ﴿ألم يروا﴾ حين اتخذوه إلها ﴿أنه لا﴾ يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يتخذوه معبودا، ثم ابتدأ فقال: ﴿اتخذوه﴾ أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر ﴿وكانوا ظالمين﴾ في كل شئ، فلم تكن عبادة العجل أمرا بديعا منهم ﴿ولما سقط في أيديهم﴾ ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتدت حسرته أن يعض على يديه غما فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها (8) ﴿ورأوا أنهم قد ضلوا﴾ وتبينوا ضلالهم بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى ﴿قالوا لئن لم يرحمنا ربنا﴾ وقرئ: " لئن لم ترحمنا " بالتاء " ربنا " بالنصب على النداء " وتغفر لنا " بالتاء (9) أيضا.
وعن الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون بدلالة قول موسى: ﴿رب اغفر لي ولأخي﴾ (10)، وقال غيره: لم يعبده الكل (11).
﴿ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151)﴾ سورة الأعراف / 150 - 152 الأسف: الشديد الغضب (12)، وقيل: الحزين (13) ﴿قال بئسما خلفتموني﴾ أي: قمتم مقامي وكنتم خلفائي ﴿من بعدى﴾ حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، وفاعل " بئس " مضمر يفسره " ما خلفتموني "، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم (14) ﴿أعجلتم أمر ربكم﴾ تقول: عجلت عن الأمر: إذا تركته غير تام، وأعجلني عنه غيري، ويضمن معنى سبق فيقال: عجلت الأمر، فالمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره وحدثتم أنفسكم بموتي ففعلتم ما فعلتم، روي: أن السامري قال لهم: إن موسى لن يرجع وأنه قد مات (15) ﴿وألقى الألواح﴾ أي: طرحها لما لحقه من الضجر غضبا لله وحمية لدينه ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ أي: بشعر رأسه ﴿يجره إليه﴾ لشدة ما ورد عليه من الأمر ﴿قال﴾ هارون ﴿ابن أم﴾ قرئ بالفتح تشبيها ب? " خمسة عشر " وبالكسر (16) على طرح ياء الإضافة (17)، وعن الحسن: والله لقد كان أخاه لأبيه وأمه، وإنما نسبه إلى الأم لأن ذكر الأم أبلغ وأنسب في الاستعطاف (18) ﴿إن القوم﴾ الذين تركتني بين أظهرهم ﴿استضعفوني﴾ قهروني واتخذوني ضعيفا، ولم آل جهدا في كفهم بالإنذار والوعظ ﴿وكادوا يقتلونني﴾ أي: هموا بقتلي لشدة إنكاري عليهم ﴿فلا تشمت بي الأعداء﴾ فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الإساءة بي ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ أي: قرينا لهم في إظهار الموجدة علي ﴿قال رب اغفر لي ولأخي﴾ بين بهذا الدعاء أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه، وإنما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه عند شدة الغضب على غيره (19) ﴿وأدخلنا في رحمتك﴾ أي: نعمتك وجنتك.
﴿إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين (152) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153) ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154)﴾ ﴿غضب من ربهم وذلة﴾ الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: خروجهم من ديارهم، لأن الغربة ذلة (20)، وقيل: هي الجزية المضروبة عليهم (21) ﴿وكذلك نجزى المفترين﴾ على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: ﴿هذا إلهكم وإله موسى﴾ (22)، ﴿والذين عملوا السيئات﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ثم تابوا﴾ رجعوا ﴿من بعدها﴾ إلى الله وأخلصوا الإيمان ﴿إن ربك من﴾ بعد تلك العظائم ﴿لغفور رحيم﴾.
﴿ولما سكت عن موسى الغضب﴾ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: ألق الألواح وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، والمعنى: ولما طفئ غضبه ﴿أخذ الألواح﴾ التي ألقاها ﴿وفى نسختها﴾ وفيما نسخ فيها وكتب، والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة ﴿هدى﴾ دلالة وبيان لما يحتاج إليها (23) من أمور الدين ﴿ورحمة﴾ ونعمة ومنفعة ﴿للذين هم لربهم يرهبون﴾ دخلت اللام لتقدم المفعول (24)، تقول: لك ضربت، ونحوه: ﴿للرؤيا تعبرون﴾ (25).
﴿واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155)﴾ سورة الأعراف / 155 تقديره: ﴿واختار موسى﴾ من ﴿قومه﴾ فحذف الجار ﴿سبعين رجلا﴾ خرج بهم إلى طور سيناء (26) لميقات ربه، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه ودخلوا وسجدوا فسمعوا كلام الله، ثم انكشف الغمام فطلبوا الرؤية فأنكر عليهم، فقالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ (27)، فـ ﴿قال رب أرني أنظر إليك﴾ فأجيب ب? ﴿لن تريني﴾ (28)، ورجف بهم الجبل فصعقوا ﴿فلما أخذتهم الرجفة قال﴾ موسى ﴿رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي﴾ وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية ﴿أتهلكنا﴾ يعني: نفسه وإياهم ﴿بما فعل السفهاء منا﴾ لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوه سفها وجهلا ﴿إن هي إلا فتنتك﴾ أي: محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا ﴿تضل بها﴾ بالمحنة الجاهلين أي: غير الثابتين في معرفتك ﴿وتهدى﴾ العالمين بك، وجعل ذلك إضلالا وهدى من الله، لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم ﴿أنت ولينا﴾ مولانا والقائم بأمورنا (29).
﴿واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلل التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)﴾
1- انظر معاني القرآن للأخفش: ج 2 ص 533، ولسان العرب لابن منظور: مادة (حلا).
2- وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 544، وتفسير البغوي: ج 2 ص 201، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 294، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 477، والتيسير للداني: ص 113.
3- وهي قراءة يعقوب. راجع التبيان: ج 4 ص 544، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 150، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 392.
4- انظر معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 377.
5- قاله ابن عباس والحسن وقتادة كما في تفسير البغوي: ج 2 ص 201، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 159 - 160، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 361.
6- في نسخة: فم.
7- حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 545.
8- وهو من باب الكناية على شدة الندم، فيقال للرجل النادم على ما فعل الخسر على ما فرط منه: قد سقط في يده وأسقط.
9- وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 294، والتيسير للداني: ص 113، وتفسير البغوي: ج 2 ص 201، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 286، وفي التبيان: ج 4 ص 545: هي قراءة أهل الكوفة إلا عاصما.
10- حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 546.
11- قال الجبائي: إنما عبد بعضهم بدلالة ما ورد من الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) فيما روي عنه في هذا المعنى. راجع التبيان: ج 4 ص 546.
12- وهو قول أبي الدرداء فيما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 547، وقول الأخفش كما في تفسير الماوردي: ج 2 ص 262، وأبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 228، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 160.
13- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 138، وحكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 547، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 262. وهو قول الحسن على ما في تفسيره: ج 1 ص 388.
14- انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 363.
15- حول السامري ونسبه وقصته انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 298 - 299.
16- وهي قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع التبيان: ج 4 ص 547، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 295، وفي تفسير البغوي: ج 2 ص 202: هي قراءة أهل الكوفة والشام.
17- قال الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 394: وذلك أنه كثر في الكلام فحذفت العرب منه الياء، ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه، إلا قولهم: يا بن عم ويا بن أم وذلك أنه يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا: يا بن أبي ويا بن أخي ويا بن خالتي فأثبتوا الياء.
18- حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 549.
19- وهو اختيار أبي علي الجبائي كما في التبيان: ج 4 ص 550.
20- وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 162.
21- قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 138، وحكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 202.
22- طه: 88.
23- في بعض النسخ: إليه.
24- انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 367.
25- يوسف: 43.
26- الطور في كلام العرب: الجبل، وقال بعض أهل اللغة: لا يسمى طورا حتى يكون ذا شجر. وقيل: سمي طور ببطور بن إسماعيل (عليه السلام) أسقطت باؤه للاستثقال. ويقال لجميع بلاد الشام: الطور، وذكر بعض العلماء: إن الطور هذا الجبل المشرف على نابلس، ولهذا يحجه السامرة، وقيل: هو ما يطل على طبرية الأردن بينهما أربعة فراسخ، على رأسه بيعة واسعة محكمة البناء موثقة الأرجاء، وقد بني عليها قلعة حصينة ومحكمة، وقد خربها الإفرنج سنة 615 م عند طلبهم بيت المقدس. (معجم البلدان: ج 3 ص 556).
27- البقرة: 55.
28- الأعراف: 143.
29- انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري: ج 1 ص 300 - 301.