سورة العنكبوت

مكية (1) وقيل: مدنية، وهي تسع وستون آية ﴿ألم﴾ كوفي، ﴿مخلصين له الدين﴾ (2) بصري.

وفي حديث أبي: " من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين " (3).

وروى أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: " من قرأ سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين فهو والله - يا أبا محمد - من أهل الجنة، لا أستثني فيه أبدا، ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثما، وإن لهاتين السورتين من الله مكانا " (4).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ألم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين (3) أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5) ومن جهد فإنما يجهد لنفسه إن الله لغنى عن العلمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7)﴾ الحسبان إنما يتعلق بمضامين الجمل، وتقدير الكلام هنا: ﴿أحسب الناس أن يتركوا﴾ غير مفتونين لأن ﴿يقولوا آمنا﴾، وكان التقدير قبل المجئ بالحسبان: تركهم غير مفتونين لقولهم: " آمنا " على الابتداء والخبر، و " غير مفتونين " من تتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كما في قول عنترة: فتركته جزر السباع ينشنه * يقضمن حسن بنانه والمعصم (5) وهذا كما تقول: خروجه لمخافة الشر، فصح أن يقع خبر مبتدأ وإن كان علة، وتقول: حسبت خروجه لمخافة الشر، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا.

﴿وهم لا يفتنون﴾ أي: لا يمتحنون بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء، ولا يصابون بمصائب الدنيا ومحنها، بل يبتليهم الله بضروب المكاره حتى يبلو صبرهم وصحة ضمائرهم، وليميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب فيه.

﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم﴾ يعني: أتباع الأنبياء قبلهم فقد أصابهم من الفتن بالفرائض التي افترضت عليهم أو بالشدائد والمحن.

وجاء في الحديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه " (6).

و ﴿ليعلمن الله﴾ بالامتحان ﴿الذين صدقوا﴾ في الإيمان ﴿وليعلمن الكذبين﴾ فيه، ولم يزل عز وعلا عالما بذلك ولكنه لا يعلمه موجودا إلا إذا وجد، والمعنى: وليميزن الصادق من الكاذب، ورووا عن علي (عليه السلام): فليعلمن وليعلمن (7)، من الإعلام أي: وليعرفنهم الله الناس من هم، أو: ليسمنهم بسمة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها.

وروي: أن العباس جاء إلى علي (عليه السلام) فقال له: امش حتى يبايع لك الناس، فقال: أتراهم فاعلين؟قال: نعم، قال: فأين قول الله عز وجل: ﴿ألم أحسب الناس﴾ الآيات (8)؟﴿أن يسبقونا﴾ أي: يفوتونا، يعني: أن الجزاء يلحقهم، مثل قوله: ﴿وما هم بمعجزين﴾ (9)، و ﴿أم﴾ منقطعة، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بكفره وعصيانه ﴿ساء ما يحكمون﴾ أي: بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا، أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.

﴿لقاء الله﴾ مثل للوصول إلى العاقبة من لقاء الجزاء والبعث والحساب، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد بعيد وقد اطلع سيده على أحواله، فتلقاه ببشر وترحيب أو تقطيب لما رضي أو سخط من أفعاله، فالمعنى: ﴿من كان يرجوا﴾ تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشرى ﴿فإن أجل الله﴾ وهو الموت ﴿لات﴾ لا محالة، فليبادر بالعمل الصالح، والذي يحقق رجاءه ويقربه إلى الله، وقيل: يرجو: يخاف (10).

﴿ومن جهد﴾ أعداء الدين لإحيائه، وجاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه ﴿فإنما يجهد﴾ لإجل نفسه، فإن المنفعة عائدة إليها، ف? ﴿إن الله لغنى عن العلمين﴾ ولا يحتاج إلى طاعتهم، وإنما يأمرهم وينهاهم لمنفعتهم.

﴿لنكفرن عنهم سيئاتهم﴾ التي اقترفوها قبل ذلك، ولنبطلنها حتى يصير كأنهم لم يعملوها ﴿ولنجزينهم﴾ بحسناتهم التي كانوا يعملونها.

﴿ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العلمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنفقين (11) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطيهم من شئ إنهم لكذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيمة عما كانوا يفترون (13)﴾ أي: أمرنا الإنسان بأن يفعل ﴿بوالديه حسنا﴾ أو بإيلاء والديه حسنا، أي: فعلا ذا حسن، يقال: وصيته بأن يفعل شيئا وأمرته به، بمعنى: ﴿وإن جاهداك﴾ أبواك ﴿لتشرك بي ما ليس لك به علم﴾ ما لا علم لك بإلهيته وحملاك عليه ﴿فلا تطعهما﴾ في الشرك، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها، نبه بذلك سبحانه على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثم قال: ﴿إلى﴾ مرجع المؤمن والمشرك منكم فأجازيكم على حسب استحقاقكم.

﴿في الصالحين﴾ أي: في جملتهم وزمرتهم في الجنة.

﴿من يقول آمنا بالله﴾ أي: يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم أذي من الكفار ﴿في الله﴾ أي: في ذات الله وبسبب دين الله، رجع عن الدين، وهو المراد بفتنة الناس، يعني: يصرفهم ما مسهم من أذاهم عن الإيمان كما أن عذاب الله يصرف المؤمنين عن الكفر، وإذا ﴿جاء نصر﴾ من الله للمؤمنين ودولة لهم على الكافرين قالوا: ﴿إنا كنا معكم﴾ أي: متابعين لكم في دينكم فأعطونا نصيبنا من الغنيمة، ثم أخبر سبحانه بأنه: ﴿أعلم بما في صدور العلمين﴾ ومن ذلك ما يخفيه صدور هؤلاء من النفاق.

ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين.

أمر الكفار أهل الإيمان باتباع سبيلهم وطريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا نفوسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا: ليجتمع هذان الأمران في الحصول: أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم، والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، والمراد ما كان قريش تقوله لمن آمن منهم: لا بعث ولا نشور، ولو كان ذلك فإنا نتحمل آثامكم.

﴿وليحملن﴾ أثقال أنفسهم ﴿وأثقالا﴾ أخر ﴿مع أثقالهم﴾ وهي أثقال الذين كانوا سببا في آثامهم ﴿وليسئلن﴾ سؤال تقريع وتعنيف ﴿عما كانوا﴾ يختلقونه من الأباطيل.

﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه وأصحب السفينة وجعلناها آية للعلمين (15) وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذا لكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)﴾

﴿الطوفان﴾ ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة.

والضمير في ﴿وجعلناها﴾ للسفينة أو للقصة.

و " إبراهيم " عطف على " نوح "، و ﴿إذ قال﴾ ظرف ل? ﴿أرسلنا﴾ أي: أرسلناه حين بلغ السن التي صلح فيها لأن يعظ قومه ويعرض عليهم الإيمان، ويأمرهم بالعبادة والتقوى ﴿إن كنتم تعلمون﴾ وإن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم، وإن نظرتم بعين البصيرة علمتم أنه ﴿خير لكم﴾.

أي: وتختلقون ﴿إفكا﴾ بتسميتكم الأوثان شركاء لله وآلهة أو شفعاء عند الله، وقيل: معناه: وتصنعون أصناما بأيديكم سماها إفكا، ونحتهم لها خلقا للإفك (11) ﴿لا يملكون﴾ أن يرزقوكم شيئا من الرزق فاطلبوا ﴿عند الله الرزق﴾ كله، فإنه هو الرازق ﴿إليه ترجعون﴾ فاستعدوا للقائه بعبادته ﴿واشكروا له﴾ على نعمه.

﴿وإن﴾ تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم ﴿فقد كذب?﴾ - ت الأمم رسلهم ولم يضروهم بالتكذيب بل ضروا أنفسهم، إذ حل بهم ما حل بسبب ذلك، و ﴿البلغ المبين﴾ الذي يزول معه الشك لاقترانه بالمعجزات.

وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله: ﴿فما كان جواب قومه﴾ يحتمل أن يكون من جملة قول إبراهيم لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن نبي الله (صلى الله عليه وآله) وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها، على معنى: أنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله) فقد كذب إبراهيم قومه، وكذبت كل أمة نبيها.

وكذلك الآيات التابعة لها لأنها ناطقة بدلائل التوحيد ووصف قدرة الله وإيضاح حججه.

وقرئ: ﴿أولم يروا﴾ بالتاء (12) والياء.

وقوله: ﴿ثم يعيده﴾ إخبار بالإعادة بعد الموت غير معطوف على ﴿يبدئ﴾، ولم تقع الرؤية عليه كما وقع النظر بعده على البدء دون الإنشاء في قوله: ﴿كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة﴾، ﴿ذلك﴾ إشارة إلى معنى الإعادة في ﴿يعيده﴾.

﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من نصرين (25)﴾

﴿النشأة الآخرة﴾ يدل على أنهما نشأتان، كل واحدة منهما ابتداء وإخراج من العدم إلى الوجود، ولا فرق بينهما إلا أن الثانية إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك.

وقرئ: " النشآة " (13) و ﴿النشأة﴾ كالرآفة والرأفة.

والمعنى: ثم الله الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، وللتنبيه على هذا المعنى أظهر اسمه ولم يقل: ثم ينشئ.

﴿يعذب من يشاء﴾ تعذيبه ﴿ويرحم من يشاء﴾ رحمته ﴿وإليه﴾ تردون وترجعون.

﴿وما أنتم بمعجزين﴾ ربكم، أي: لا تفوتونه إن هربتم من حكمه في الأرض العريضة البسيطة ولا في السماء التي هي أفسح منها لو كنتم فيها، أو: لا تعجزون أمره الجاري ﴿في السماء﴾ والأرض أن يجري عليكم فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.

عن قتادة: أن الله ذم قوما هانوا عليه فقال: ﴿أولئك يئسوا من رحمتي﴾ وقال: ﴿لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته ولا يأمن عقابه، وصفة المؤمن أن يكون راجيا لله خائفا (14).

﴿مودة بينكم﴾ قرئت منصوبة بغير إضافة وبإضافة، ومرفوعة كذلك (15).

والنصب على وجهين: على التعليل، أي: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب واحد فيكون ذلك سبب توادهم، وعلى أن يكون مفعولا ثانيا، أي: اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم، على تقدير حذف المضاف، أو: اتخذتموها مودة يعني: مودودة بينكم كقوله: ﴿يحبونهم كحب الله﴾ (16).

والرفع على وجهين أيضا: أن يكون خبرا ل? " إن " على أن تكون " ما " موصولة، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: أن الأوثان مودة بينكم، أي: سبب مودة أو مودودة، يعني: إنما تتوادون عليها أو تودونها ﴿في الحياة الدنيا ثم يوم القيمة﴾ تتباغضون وتتلاعنون، تتبرأ القادة من الأتباع ﴿ويلعن﴾ الأتباع القادة.

﴿فامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين (28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصدقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30)﴾

﴿لوط﴾ أول من صدق بإبراهيم، وهو ابن أخته ﴿وقال﴾ إبراهيم ﴿إني مهاجر﴾ من كوثى - وهو من سواد الكوفة - إلى حران من أرض الشام، ثم منها إلى فلسطين، وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة وهاجر ﴿إلى ربى﴾ حيث أمرني ربي بالهجرة إليه ﴿إنه هو العزيز﴾ الذي يمنعني من أعدائي ﴿الحكيم﴾ الذي لا يأمرني إلا بما فيه مصلحتي.

و ﴿أجره في الدنيا﴾ هو الذكر الحسن، والصلاة عليه إلى آخر الدهر، والذرية الطيبة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه.

﴿ولوطا﴾ عطف على ﴿إبراهيم﴾ أو على ما عطف عليه، و ﴿الفاحشة﴾ مفسرة بقوله: ﴿أئنكم لتأتون الرجال﴾.

وقرئ: " إنكم " بغير الاستفهام في الأول دون الثاني، وقطع ﴿السبيل﴾ عمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال، وقيل: هو قطعهم الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاحشة بالمجتازين في ديارهم (17)، وعن الحسن: هو قطع النسل باختيار الرجال على النساء (18)، و ﴿المنكر﴾ هو الحذف بالحصا، فأيهم أصابه ينكحونه، والصفع وضرب المعازف والقمار والسباب والفحش في المزاح، وقيل: كانوا يتحابقون (19)، وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية، فإظهارها أقبح من سرها (20).

وفي الحديث: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " (21).

والنادي: مجتمع القوم، فإذا تفرقوا عنه لا يكون ناديا ﴿إن كنت من الصدقين﴾ فيما وعدتنا من نزول العذاب.

﴿انصرني على القوم المفسدين﴾ الذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من الفاحشة طوعا وكرها، وبابتداعهم إياها، وبأن سنوها لمن بعدهم.

﴿ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (32) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35) وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37) وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مسكنهم وزين لهم الشيطان أعملهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين (38)﴾

﴿مهلكوا أهل هذه القرية﴾ إضافة تخفيف لا إضافة تعريف، ومعناه الاستقبال، و ﴿القرية﴾ هي سدوم التي قيل فيها: " أجور من قاضي سدوم " ﴿كانوا ظالمين﴾ استمر بهم فعل الظلم في الأيام السالفة وأصروا عليه.

وقرئ: ﴿لننجينه﴾ و ﴿منجوك﴾ بالتشديد والتخفيف (22).

﴿ضاق بهم ذرعا﴾ أي: ضاق بشأنهم وتدبيرهم ذرعه أي: طاقته، جعلوا ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع إذا كان مطيقا.

والرجز والرجس: العذاب، من قولهم: إرتجز وارتجس: إذا اضطرب لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب.

والآية البينة: آثار منازلهم المخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض (23) ﴿لقوم﴾ يتعلق ب? ﴿تركنا﴾ أو ب? ﴿بينة﴾.

﴿وارجوا اليوم الآخر﴾ افعلوا ما ترجون منه العاقبة، فأقيم المسبب مقام السبب، أي: وارجوا ثواب اليوم الآخر بفعل الإيمان والطاعات، وقيل: هو من الرجاء بمعنى الخوف (24).

﴿الرجفة﴾ الزلزلة الشديدة، وقيل: هي صيحة جبرائيل (25)، لأن القلوب رجفت لها ﴿في دارهم﴾ في بلدهم وأرضهم، واكتفي بالواحد والمراد: في ديارهم لأنه لا يلتبس ﴿جاثمين﴾ باركين على الركب ميتين.

﴿و﴾ أهلكنا ﴿عادا وثمودا﴾ ويدل عليه قوله: ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ لأنه في معنى الإهلاك ﴿وقد تبين لكم﴾ يعني: ما وصفه من إهلاكهم من جهة ﴿مسكنهم﴾ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ﴿وكانوا مستبصرين﴾ عقلاء متمكنين من النظر ولم يفعلوا، أو: كانوا متباينين أن العذاب نازل بهم.

﴿وقرون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سبقين (39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم (42) وتلك الأمثل نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43) خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين (44)﴾

﴿ما كانوا سابقين﴾ أي: فائتين الله، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه.

" الحاصب " لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء، وقيل: ملك كان يرميهم (26)، و " الصيحة " لمدين وثمود، و " الخسف " لقارون، و " الغرق " لقوم نوح وفرعون.

شبه سبحانه ما اتخذوه متكلا في دينهم ومعولا عليه بما هو مثل في الضعف والوهن، وهو نسج ﴿العنكبوت﴾، والولي: المتولي للنصرة، وهو أبلغ من الناصر ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أن هذا مثلهم، وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية في الضعف، أو: إذا صح هذا التشبيه فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون.

وقرئ: ﴿يدعون﴾ بالتاء (27) والياء وهذا أوكد مما تقدمه إذ لم يجعل ما يدعونه شيئا ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشئ، وتركوا عبادة القادر الحكيم.

﴿وما يعقلها إلا العالمون﴾ أي: لا يعقل صحة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب وفائدته إلا العلماء بالله، فإن الأمثال والتشبهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار، تكشف عنها وتصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه تلا هذه الآية فقال: " العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " (28).

﴿بالحق﴾ أي: بالغرض الصحيح الذي هو حق، وهو أن يكونا (29) مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين، ودلالة للموحدين على وحدانيته وكمال قدرته.

﴿أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (45) ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم وا حد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلوا من قبله من كتب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينت في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49)﴾ الصلاة لطف للمكلف في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا " (30).

﴿ولذكر الله أكبر﴾ والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله كما قال: ﴿فاسعوا إلى ذكر الله﴾ (31) فكأنه قال: الصلاة أكبر لأنها ذكر الله.

وعن ابن عباس: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته (32) ﴿والله يعلم ما تصنعون﴾ من الخير والطاعة فيثيبكم (33) عليه.

﴿ولا تجادلوا﴾ اليهود والنصارى ﴿إلا﴾ بالخصلة التي ﴿هي أحسن﴾ وهي مقابلة الخشونة باللين كقوله: ﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾ (34)، وفي هذا دلالة على أن الدعاء إلى الله تعالى يجب أن يكون على أحسن الوجوه وألطفها ﴿إلا الذين ظلموا منهم﴾ فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم ينجح فيهم الرفق واللطف ﴿وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم﴾ هو من جملة المجادلة التي هي أحسن.

ومثل ذلك الإنزال ﴿أنزلنا إليك الكتاب﴾ أي: أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية ﴿فالذين آتيناهم الكتاب﴾ هم عبد الله بن سلام وأضرابه ﴿ومن هؤلاء﴾ أي: ومن أهل مكة، وقيل: أراد بالذين آتيناهم الكتاب من تقدم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم ﴿ومن هؤلاء﴾ من في عهده منهم (35) ﴿وما يجحد بآياتنا﴾ مع ظهورها ﴿إلا﴾ المصممون على الكفر.

وما كنت تقرأ من قبل القرآن كتابا، وكنت أميا لم تعرف بخط قط، إذ لو كان شئ من ذلك أي: من التلاوة والخط ﴿لارتاب المبطلون﴾ من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا: أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس هو به، أو: لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو خطه بيده، بل القرآن ﴿آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ وهم النبي والأئمة والعلماء الذين حفظوه ووعوه، ورسخ معناه في قلوبهم.

وهذان من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه حملته ظاهرا بخلاف سائر الكتب الإلهية فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف ﴿وما يجحد﴾ بالآيات الواضحات ﴿إلا﴾ المكابرون المتوغلون في الظلم.

﴿وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفي بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالبطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52) ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55)﴾ وقرئ (36): ﴿آيات﴾ أي: هلا أنزل عليه مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك ﴿إنما الآيات عند الله﴾ ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لأنزل ﴿وإنما أنا﴾ منذر أنذر بما أعطيت من الآيات، وليس لي اختيار الآيات على الله عز اسمه، ومع علمي بأن الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك.

﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا﴾ القرآن عليك وهو المعجزة الواضحة، والآية المغنية عن سائر الآيات، يدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة إلى آخر الدهر ﴿إن في ذلك﴾ لنعمة عظيمة وتذكرة ﴿لقوم يؤمنون﴾.

﴿قل كفي بالله بيني وبينكم شهيدا﴾ لي بأن قد أبلغت الرسالة، وعليكم بأن كذبتم وعاندتم ﴿يعلم ما في السماوات والأرض﴾ فهو مطلع على أمري وأمركم، عالم بحقي وباطلكم ﴿والذين آمنوا بالباطل﴾ منكم وهو ما يعبدون من دون الله ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

" استعجالهم العذاب ": استهزاء منهم وتكذيب، ومنه قول النضر بن الحارث: " أمطر علينا حجارة من السماء " ﴿ولولا أجل مسمى﴾ قد سماه الله، ووقت قدره الله أوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الوقت ﴿لجاءهم العذاب﴾ وهو وقت فنائهم بآجالهم، وقيل: المراد بالأجل: الآخرة (37)، لأن الله سبحانه وعد رسوله (عليه السلام) أن لا يعذب أمته ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.

﴿وإن جهنم لمحيطة﴾ بهم لأنها مصيرهم لا محالة، فكأنها أحاطت بهم، أو: ستحيط بهم ﴿يوم يغشهم العذاب﴾، وعلى الأول ينتصب ﴿يوم يغشهم﴾ بمضمر، و ﴿من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ كقوله: ﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش﴾ (38)، ﴿لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل﴾ (39)، وقرئ: ﴿ويقول﴾ بالياء والنون (40)، أي: ذوقوا جزاء أعمالكم.

﴿يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم (62)﴾ معناه: إذا لم يتسهل لكم العبادة، ولم تتمش أمور دينكم في بلد أنتم فيه فاخرجوا منه إلى بلد آخر.

وعن الصادق (عليه السلام): " إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها ".

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) " (41).

﴿فإياي فاعبدون﴾ هو في المتكلم مثل: " إياه ضربته " في الغائب، و " إياك ضربتك " في المخاطب، والتقدير: فإياي فاعبدوني.

والفاء جواب شرط محذوف، لأن المعنى: إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.

ولما أمر عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها حتى يطلبوا لها أوفق البلاد عقبه بقوله: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ أي: واجد مرارته بأي أرض كان.

﴿لنبوئنهم﴾ لننزلنهم ﴿من الجنة غرفا﴾ أي: علالي عاليات، وقرئ: " لنثوينهم " (42) من الثواء، يقال: ثوى في المنزل وأثوى غيره، والوجه في تعديته إلى الغرف أن يكون الأصل " لنثوينهم في غرف " وحذف الجار، أو أجري مجرى " لننزلنهم "، أو شبه الظرف المؤقت بالمبهم.

﴿الذين صبروا﴾ على مفارقة الأوطان لأجل الدين، وعلى المحن والشدائد، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا إلا على ربهم.

ولما أمروا بالهجرة من مكة خافوا الفقر والضيعة وقالوا: كيف نخرج إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة؟فقيل: ﴿وكأين من دابة﴾ والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل ﴿لا تحمل رزقها﴾ لا تستطيع أن تحمله لضعفها ﴿الله يرزقها وإياكم﴾ أي: لا يرزق تلك الدواب إلا الله، ولا يرزقكم أيضا إلا هو، وإن كنتم تطيقون حمل أرزاقكم وكسبها فلا تتركوا الهجرة بسبب الاهتمام للرزق ﴿وهو السميع﴾ لقولكم: نخشى الفقر ﴿العليم﴾ بضمائركم.

﴿ولئن﴾ سألت هؤلاء المشركين من أهل مكة ﴿من خلق السماوات والأرض﴾؟لأقروا بأنه خالقهما ومسخر الشمس والقمر ومسيرهما ﴿فأنى يؤفكون﴾ أي: فكيف تصرفون عن توحيد الله؟وقدر الرزق وقتره: ضيقه، أي: ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع " من يشاء ".

﴿ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون (64) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66) أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)﴾

﴿قل الحمد لله﴾ على ما وفق من توحيده، ونفي الأنداد عنه ﴿بل أكثرهم لا يعقلون﴾ ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد.

﴿هذه﴾ فيها ازدراء لأمر الدنيا وتحقير لها، أي: ما هي بسرعة زوالها عن أهلها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون ﴿وإن... الآخرة لهى الحيوان﴾ أي: ليس فيها إلا حياة دائمة لا موت فيها ولا تنغيص، فكأنها في ذاتها حياة، والحيوان: مصدر " حيي "، وأصله " حييان " فقلبت الثانية واوا، وبه سمي ما فيه حياة حيوانا ﴿لو كانوا يعلمون﴾ لم يؤثروا عليها الحياة الفانية.

واتصل قوله: ﴿فإذا ركبوا﴾ بمحذوف دل عليه ما شرحه من أمرهم، والمعنى: أنهم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك ﴿دعوا الله﴾ كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلها آخر ﴿فلما نجاهم إلى البر﴾ وأمنوا عادوا إلى حالهم الأولى من الإشراك معه في العبادة.

﴿ليكفروا... وليتمتعوا﴾ قرئ بكسر اللامين، فيحتمل أن يكون لام كي، بمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود كافرين بنعمة الله قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، وأن يكون لام الأمر على معنى التهديد والتوعيد، وقراءة من قرأ: " وليتمتعوا " بالسكون (43) تشهد له، ونحوه قوله سبحانه: ﴿اعملوا ما شئتم﴾ (44).

ثم ذكرهم الله سبحانه النعمة عليهم في كونهم آمنين من القتل والغارة، والعرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا، ويتغاورون مع قلتهم وكثرة العرب، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، وهذه النعمة الظاهرة إلى غيرها من نعم الله مكفورة عندهم.

﴿أليس في جهنم﴾ كقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح (45) والهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير، وفيها وجهان: أحدهما: ألا يثوون في جهنم، ولا يستحقون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله في ادعائهم له شريكا، وكذبوا بالحق هذا التكذيب؟والثاني: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثواهم حتى اجترأوا مثل هذه الجرأة؟﴿والذين جهدوا﴾ ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء، والشيطان وأعداء الدين ﴿فينا﴾ أي: في حقنا، ولوجهنا، ومن أجلنا ﴿لنهدينهم سبلنا﴾ لنزيدنهم هداية إلى السبيل الموصلة إلى ثوابنا، وتوفيقا لازدياد الطاعات الموجبة لرضائنا، كقوله: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ (46) وقيل: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا (47).


1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 185: قال قوم: هي مكية، وقال قتادة: العشر الأول مدني والباقي مكي، وقال مجاهد: هي مكية، وهي تسع وستون آية بلا خلاف في جملتها، وفي تفصيلها خلاف. وفي الكشاف: ج 3 ص 438: مكية إلا من آية 1 إلى غاية آية 11 فمدنية، وآياتها 69 نزلت بعد الروم.

2- الآية: 65.

3- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 465 مرسلا.

4- ثواب الأعمال للصدوق: ص 136.

5- البيت من معلقته المشهورة. ويروى البيت: فتركت جزر السباع ينشنه * ما بين قلة رأسه والمعصم راجع ديوانه: ص 16.

6- رواه البخاري في الصحيح: ج 9 ص 25 من كتاب الإكراه عن خباب بن الأرت.

.

7- رواه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 115.

8- رواه القمي علي بن إبراهيم في تفسيره: ج 2 ص 148.

9- الزمر: 51.

10- قاله ابن جبير والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 277.

11- قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. راجع تفسير ابن كثير: ج 3 ص 393.

12- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 498.

13- قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالمد في القرآن كله. راجع المصدر السابق.

14- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 450.

15- قرأ حمزة وحفص عن عاصم بالنصب مع الإضافة، ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالنصب منونا بغير إضافة، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالرفع مع الإضافة، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم بالرفع منونا بغير إضافة. راجع كتاب السبعة: ص 498 - 499.

16- البقرة: 165.

17- حكاه ابن شجرة كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 282.

18- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 452.

19- وهو قول عائشة: راجع المصدر السابق.

20- حكاه الزمخشري في الكشاف. انظر المصدر نفسه.

21- المصدر السابق.

22- قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر بتشديد الحرف الأول وتخفيف الثاني، ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية حفص بتشديد الحرفين، وحمزة والكسائي بتخفيفهما. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 500.

23- قاله مجاهد. راجع تفسير القرطبي: ج 13 ص 343.

24- قاله يونس النحوي. راجع المصدر السابق.

25- قاله الضحاك. راجع الكشاف: ج 3 ص 453.

26- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 454.

27- قرأه ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 501.

28- رواه ابن حجر في المطالب العالية: ج 3 ص 214 ح 3294 عن جابر.

29- أي السماء والأرض.

30- المعجم الكبير للطبراني: ج 11 ص 46 ح 11025.

31- الجمعة: 9.

32- تفسير ابن عباس: ص 336.

33- في نسخة: " فيصيبكم ".

34- المؤمنون: 96، فصلت: 34.

35- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 458.

36- يظهر من عبارة المصنف (قدس سره) أنه يعتمد هنا على قراءة المفرد من غير ألف كما لا يخفي.

37- قاله ابن جبير. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 290.

38- الأعراف: 41.

39- الزمر: 16.

40- وبالنون قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 501.

41- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 461.

42- قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 603.

43- قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 174.

44- فصلت: 40.

45- البيت لجرير من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان. راجع ديوان جرير: ص 77.

46- محمد: 17.

47- قاله عباس أبو أحمد كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 295.