سورة القصص

مكية (1)، وهي ثمان وثمانون آية، ﴿طسم﴾ كوفي، ﴿يسقون﴾ غيرهم.

وفي حديث أبي: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق موسى (عليه السلام) ومن كذب به " (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحى ى نساءهم إنه كان من المفسدين (4) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6)﴾

﴿نتلوا عليك﴾ بعض ﴿نبأ موسى وفرعون بالحق﴾ أي: محقين كقوله: ﴿تنبت بالدهن﴾ (3)، ﴿لقوم يؤمنون﴾ سبق في علمنا أنهم يؤمنون، لأن التلاوة إنما ينفع هؤلاء.

﴿إن فرعون﴾ جملة مستأنفة كالتفسير لما تقدم ﴿علا﴾ أي: بغى وتجبر ﴿في﴾ أرض مصر، وتجاوز الحد في الظلم ﴿وجعل أهلها شيعا﴾ أي: فرقا يشيعونه على ما يريد، أو: يشيع بعضهم بعضا في طاعته، أو: فرقا مختلفة قد أوقع بينهم العداوة، وهم: بنو إسرائيل والقبط ﴿يستضعف طائفة منهم﴾ وهم بنو إسرائيل، وسبب ذبح الأبناء أن كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده، ﴿يذبح﴾ بدل من ﴿يستضعف﴾، و ﴿يستضعف﴾: إما حال من الضمير في ﴿جعل﴾ أو صفة ل? ﴿شيعا﴾ أو كلام مستأنف.

﴿ونريد أن نمن﴾ جملة معطوفة على الكلام المتقدم، لأن الجميع تفسير ل? ﴿نبأ موسى وفرعون﴾، ﴿ونريد﴾ حكاية حال ماضية، ويجوز أن يكون حالا من ﴿يستضعف﴾ أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم ﴿ونجعلهم أئمة﴾ متقدمين في الدين والدنيا، وقادة في الخير يقتدى بهم.

وعن سيد العابدين (عليه السلام): والذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق بشيرا ونذيرا، إن الأبرار منا أهل البيت، وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه.

﴿ونجعلهم الوارثين﴾ يرثون فرعون وقومه ملكهم.

﴿ونمكن لهم﴾ في أرض مصر والشام، أي: نجعلها لهم ممهدة لا تنبو بهم كما كانت في أيام الجبابرة، وننفذ أمرهم، ونطلق أيديهم فيها ونسلطهم عليها.

وقرئ: " ويرى " بالياء " فرعون وجنوده " بالرفع (4)، أي: يرون منه ﴿ما كانوا يحذرون?﴾ - ه من ذهاب ملكهم وهلاكهم.

﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خطين (8) وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9) وأصبح فؤاد أم موسى فرغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10)﴾

﴿اليم﴾ البحر وهو نيل مصر، يعني: ألهمناها، أو أتاها جبرائيل بذلك ﴿أن أرضعيه﴾ ما لم تخافي عليه ﴿فإذا خفت عليه﴾ القتل فاقذفيه في النيل ﴿ولا تخافي﴾ عليه الغرق والضياع، والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع، وهو فراقه والإخطار به، وقد نهيت عن الأمرين جميعا، ووعدت بما يسليها ويطمئن قلبها ويبهجها، وهو رده إليها وجعله ﴿من المرسلين﴾.

واللام في ﴿ليكون﴾ لام " كي " التي معناها التعليل، ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم ﴿عدوا وحزنا﴾ غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله.

وقرئ: " حزنا " (5) هما لغتان كالرشد والرشد ﴿كانوا خطئين﴾ في كل شئ، وليس خطأهم في تربية عدوهم ببدع منهم، أو: كانوا مجرمين مذنبين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم الذي هو سبب هلاكهم على أيديهم.

وقرئ: " خاطين " بتخفيف الهمزة (6)، أو: هو من خطوت أي: خاطين الصواب إلى الخطأ.

وروي أنهم التقطوا التابوت فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا ففتحته فإذا بصبي يمص إبهامه فأحبوه، فقالت آسية لفرعون: ﴿قرت عين لي ولك﴾ أي: هو قرة عين.

وعن ابن عباس: أن أصحاب فرعون جاءوا ليقتلوه فمنعتهم وقالت: لا تقتلوه، فقال فرعون: قرة عين لك، فأما لي فلا، ولو أنه أقر بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها (7).

﴿عسى أن ينفعنا﴾ فإن فيه مخائل اليمن توسمت في سيمائه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا ﴿أو نتخذه ولدا﴾ فإنه أهل لأن يكون ولدا للملوك ﴿وهم لا يشعرون﴾ أنهم وجدوا المطلوب الذي يطلبونه فارغا من الهم حين سمعت بعطف فرعون عليه وتبنيه له.

وقيل: ﴿فرغا﴾ صفرا من العقل حين سمعت بوقوعه في يد فرعون (8)، ونحوه: ﴿وأفئدتهم هواء﴾ (9) أي: لا عقول فيها.

قال حسان: ألا أبلغ أبا سفيان عني * فأنت مجوف نخب هواء (10) ﴿إن كادت لتبدي به﴾ معناه: أنها كادت تذكر موسى فتقول: يا ابناه، من شدة الوجد ﴿لولا أن ربطنا على قلبها﴾ بإلهام الصبر ﴿لتكون من﴾ المصدقين بوعد الله في ﴿إنا رادوه إليك﴾، وقيل: كادت تخبر أنها أمه لما رأته عند فرعون لشدة سرورها به (11)، والهاء في ﴿به﴾ لموسى، والمراد بأمره وقصته.

﴿وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11) وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13) ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين (14) ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16)﴾

﴿وقالت﴾ أم موسى لأخت موسى: ﴿قصيه﴾ أي: اتبعي أثره وتتبعي خبره ﴿فبصرت به عن جنب﴾ عن بعد، والمراد: فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى، فرأت أخاها موسى وهم لا يحسون بأنها أخته.

والتحريم: استعارة للمنع، لأن من حرم عليه الشئ فقد منع ذلك، وذلك أن الله منع موسى أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك، و ﴿المراضع﴾ جمع مرضع وهي التي ترضع، أو جمع مرضع وهو الرضاع أو موضع الرضاع يعني الثدي من قبل قصها أثره.

وروي أنها لما قالت: ﴿وهم له ناصحون﴾ قال هامان: إنها لتعرفه، وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت: وهم للملك ناصحون (12).

والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد.

فانطلقت إلى أمه فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يقبله شفقة عليه، إذ ألقى الله محبته في قلبه، وهو يبكي بطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس إليها والتقم ثديها، فقال فرعون: ومن أنت منه؟قالت: إني امرأة طيبة اللبن، لا أوتى بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله وعده في الرد، فعند ذلك استقر عندها أنه يكون نبيا، وذلك قوله: ﴿ولتعلم أن وعد الله حق﴾ والمراد: ليثبت علمها ويتمكن ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ أنه حق كما علمت.

﴿واستوى﴾ أي: اعتدل واستحكم وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه وهو أربعون سنة ﴿آتيناه حكما﴾ وهو النبوة ﴿وعلما﴾ وهو التوراة.

﴿ودخل المدينة﴾ يعني: مصر، وقيل: مدينة من أرض مصر (13) ﴿على حين غفلة﴾ يعني: ما بين العشاءين، وقيل: وقت القائلة (14) ﴿من شيعته﴾ ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل ﴿من عدوه﴾ من مخالفيه من القبط.

والوكز: الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: بجمع الكف (15) ﴿قال هذا من عمل الشيطان﴾ يعني: أن العمل الذي وقع القتل بسببه من عمل الشيطان إذ حصل بوسوسته ﴿إنه عدو﴾ لبني آدم ﴿مضل﴾ ظاهر الإضلال.

﴿قال رب إني ظلمت نفسي﴾ بهذا القتل لأن القوم لو علموا بذلك لقتلوني، وقيل: إنما قاله على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه (16).

﴿قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17) فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين (19) وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20) فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين (21)﴾

﴿بما أنعمت على﴾ يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف، والتقدير: أقسم بإنعامك علي لأتحفظن ﴿فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾، وأن يكون معناه: ﴿بما أنعمت على﴾ من القوة فلن استعملها إلا في مظاهرة أولئك (17) المؤمنين، ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بني إسرائيل.

﴿يترقب﴾ المكروه وهو أن يستقاد منه، أو ينتظر الأخبار في قتل القبطي ويتجسس، لأنه خاف من فرعون وقومه أن يكونوا عرفوا أنه قتله، وقال للإسرائيلي: ﴿إنك لغوى مبين﴾ لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر.

﴿فلما﴾ أخذته الرقة على الإسرائيلي و ﴿أراد﴾ أن يدفع القبطي الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي عنه و ﴿يبطش﴾ به، وقرئ: " يبطش " بالضم (18)، والجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، وقيل: هو المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله (19).

فلما قال للإسرائيلي هذا اشتهر أمر القتل في المدينة، وأنهي إلى فرعون وهموا بقتله ﴿وجاء رجل﴾ قيل: هو من آل فرعون وكان ابن عم فرعون (20)، و ﴿يسعى﴾ يجوز أن يكون في محل الرفع وصفا ل? ﴿رجل﴾، ويجوز أن يكون منصوبا حالا عنه، لأنه قد تخصص بوصفه الذي هو ﴿من أقصا المدينة﴾، ويجوز أن يكون صلة ل? ﴿جاء﴾ فيكون ﴿يسعى﴾ صفة ل? ﴿رجل﴾ لا غير، ﴿يأتمرون﴾ يتشاورون بسببك، يقال: تأمر القوم وائتمروا، و ﴿لك﴾ ليس بصلة ل? ﴿الناصحين﴾ بل هو بيان.

﴿فخرج﴾ موسى من مصر ﴿يترقب﴾ التعرض له في الطريق، أو: أن يلحق ﴿قال رب نجنى من﴾ فرعون وقومه.

﴿ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهديني سواء السبيل (22) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27) قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28)﴾

﴿توجه تلقاء مدين﴾ صرف وجهه نحوها، وهي قرية شعيب، وعن ابن عباس: خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه (21) و ﴿سواء السبيل﴾ وسطه، وقيل: خرج خافيا (22) لا يعيش إلا بورق الشجر (23).

﴿ولما ورد ماء مدين﴾ الذي يسقون منه وكان بئرا، ووروده: مجيئه والوصول إليه ﴿وجد﴾ فوق شفيره ومستقاه ﴿أمة﴾ جماعة كثيرة العدد من أناس مختلفين ﴿ووجد من دونهم﴾ أي: مكان أسفل من مكانهم ﴿امرأتين تذودان﴾ عنهما، والذود: الطرد والدفع، كانتا تكرهان المزاحمة على الماء، وقيل: كانتا لا تتمكنان من السقي، لأن على الماء من هو أقوى منهما (24) ﴿ما خطبكما﴾ ما شأنكما، وأصله: ما مخطوبكما أي: مطلوبكما من الذياد.

وقرئ: " يصدر الرعاء " (25) أي: يصدروا مواشيهم من ورودهم، والرعاء: جمع الراعي كالصيام والقيام.

﴿فسقى لهما﴾ فسقى غنمهما لأجلهما، وروي: أن الرعاء كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال، وقيل: عشرة (26)، وقيل: أربعون (27)، فأقله وحده، وسألهم دلوا فأعطوه دلوهم، وكان لا ينزعها إلا عشرة، فاستقى بها وحده مرة (28) فروى غنمهما وأصدرهما، وإنما فعل ذلك رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف.

ولم يذكر مفعول ﴿يسقون﴾ و ﴿تذودان﴾ و ﴿لا نسقي﴾ لأن الغرض هو الفعل لا المفعول.

والوجه في مطابقة جوابهما لسؤاله أنه سألهما عن سبب ذودهما الغنم، فقالتا: سبب ذلك أنهما ضعيفتان لم تقدرا على مزاحمة الرجال، ولابد لهما من تأخير السقي إلى أن يصدروا ﴿وأبونا شيخ كبير﴾ ضعيف (29) لا يقدر على تولي السقي بنفسه، وكأنما قالتا ذلك تعريضا للطلب منه الإعانة على سقي غنمهما، وإبلاء للعذر في توليهما السقي بأنفسهما.

﴿ثم تولى إلى﴾ ظل سمرة من شدة الحر وهو جائع فقال: ﴿رب إني لما أنزلت إلي﴾ أي: لأي شئ قليل أو كثير ﴿فقير﴾ وإنما تعدى ﴿فقير﴾ باللام لأنه ضمن معنى " سائل " و " طالب ".

وروي أنه قال ذلك وخضرة البقل ترى في بطنه من الهزال، وما سأل إلا خبزا يأكله.

﴿على استحياء﴾ في موضع الحال، أي: مستحيية خفرة، وذلك أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان وقالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا وسقى لنا، قال لإحداهما: علي به، فرجعت فتبعها موسى، فألصقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: إمشي خلفي وأريني السمت بقولك، فلما قص عليه قصته ﴿قال لا تخف﴾ فلا سلطان لفرعون بأرضنا، و ﴿القصص﴾ مصدر سمي به المقصوص.

﴿قالت إحداهما﴾ وهي كبراهما، وهي التي ذهبت به، وهي التي تزوجها.

وروي أن شعيبا قال لها: وكيف علمت قوته وأمانته؟فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو، وأنه صوب رأسه حتى أبلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه، وفي قولها حكمة جامعة (30) لأنه إذا حصلت الأمانة والكفاية في القيام بالأمر فقد تم المراد.

﴿تأجرني﴾ من أجرته إذا كنت له أجيرا، و ﴿ثمني حجج﴾ ظرف له ﴿فمن عندك﴾ أي: فإتمامه من عندك، يعني: لا أوجبه عليك ولا ألزمكه، ولكنك إن فعلت فهو تبرع منك ﴿وما أريد أن أشق عليك﴾ بإتمام الأجلين وإيجابه ﴿من الصالحين﴾ في حسن المعاملة ولين الجانب.

﴿ذلك﴾ مبتدأ و ﴿بيني وبينك﴾ خبره، أي: ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه قائم بيننا لا تخرج عنه، أي أجل ﴿قضيت﴾ من الأجلين: الثماني أو العشر، فلا يعتدى ﴿على﴾ في طلب الزيادة عليه، و ﴿ما﴾ مؤكدة لإبهام " أي " زائدة في شياعها، والوكيل: الذي وكل الأمر إليه، ولما استعمل بمعنى الشاهد والمهيمن عدي ب? ﴿على﴾.

﴿فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فلما أتاها نودي من شطر الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العلمين (30) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملأه إنهم كانوا قوما فسقين (32) قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطنا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)﴾ قرئ: ﴿جذوة﴾ بالحركات الثلاث (31)، وفيها اللغات الثلاث، وهي العود الغليظ في رأسه نار.

و ﴿من﴾ الأولى والثانية لابتداء الغاية، أي: أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.

و ﴿من الشجرة﴾ بدل من ﴿شطئ الواد﴾ وهو بدل الاشتمال، لأن الشجرة قد نبتت على الشاطئ.

والرهب: الخوف، والجناح المراد به اليد، لأن يد الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل الإنسان يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، من الرهب أي: من أجل الرهب، يعني: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ﴿فذانك﴾ قرئ مخففا ومشددا (32)، فالمخفف تثنية " ذاك " والمشدد تثنية " ذلك "، ﴿برهانان﴾ حجتان (33)، وسميت الحجة برهانا لبياضها ووضوحها، وقالوا: امرأة برهرهة أي: بيضاء، وأبره الرجل: جاء بالبرهان، وكذلك " السلطان " مشتق من السليط وهو الزيت لإنارته.

والردء: اسم ما يعان به، فعل بمعنى مفعول به، كالدف ء لما يدفأ به، قال: وردئي كل أبيض مشرفي * شحيذ الحد عذب ذي فلول (34) وقرئ: " ردا " على التخفيف (35)، وقرئ: ﴿يصدقني﴾ بالرفع والجزم (36) صفة وجوابا كقوله: ﴿وليا يرثني﴾ (37) سواء، والمراد بالتصديق أن يخلص بلسانه الحق ويجادل به الكفار كما يفعله المصقع البليغ، فإنه يجري مجرى التصديق، كما أن البرهان يصدق القول، أو يبين كلامه حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه.

وأسند التصديق إليه لأنه السبب فيه على سبيل الاستعارة، ويدل عليه قوله: ﴿إني أخاف أن يكذبون﴾.

ومعنى ﴿سنشد عضدك بأخيك﴾ سنقويك به ونؤيدك بأن نقرنه إليك في النبوة، لأن العضد قوام اليد، قال طرفة: أبني لبينى لستم بيد * إلا يدا ليست لها عضد (38) ﴿ونجعل لكما سلطنا﴾ أي: غلبة وتسلطا، أو حجة وبرهانا ﴿بآيتنا﴾ يتعلق ب? ﴿نجعل لكما سلطنا﴾ أي: نسلطكما، أو تعلق ب? ﴿لا يصلون﴾ أي: تمتنعان منهم بآياتنا، أو: هو بيان ل? ﴿الغالبون﴾ لا صلة، لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، أو على تقدير: إذهبا بآياتنا.

﴿فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36) وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (37) وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكذبين (38) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عقبة الظالمين (40) وجعلنهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون (41) وأتبعنهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين (42)﴾ أي: ﴿سحر﴾ ظاهر افتراؤه، وليس بمعجز من الله ﴿في آبائنا﴾ حال عن هذا، أي: كائنا في زمان آبائنا، أي: لم يسمع بكون ما يدعيهم (39).

﴿ربى أعلم﴾ منكم بحال من يؤهله النبوة ويبعثه بالهدى، يعني نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين والساحرين، و ﴿لا يفلح﴾ عنده ﴿الظالمون﴾، و ﴿عقبة الدار﴾ هي العاقبة المحمودة، يدل عليه قوله: ﴿أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن﴾ (40) والدار هي الدنيا، وعقباها وعاقبتها أن يختم للعبد بالرضوان والرحمة.

وقرئ: " قال موسى " بغير واو (41)، و ﴿تكون﴾ بالتاء والياء (42).

﴿فأوقد لي يا هامان على الطين﴾ (43) واتخذ الآجر فاجعل لي قصرا وبناء مرتفعا عاليا ﴿لعلى﴾ أقف على حال ﴿إله موسى﴾ وأشرف عليه، وهذا تلبيس من فرعون وإيهام على العوام، إن الذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان، وقصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده، يعني: مالكم من إله غيري، أو: يريد أن إلها غيره غير معلوم عنده لكنه مظنون، والطلوع والاطلاع: الصعود.

وكل مستكبر متكبر سوى الله عز وجل، فاستكباره ﴿بغير الحق﴾، وهو جل جلاله المتكبر على الحقيقة، أي: المبالغ في كبرياء الشأن.

قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز اسمه: " الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار " (44).

وقرئ ﴿يرجعون﴾ بالضم والفتح (45).

﴿فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم﴾ من الكلام الدال على عظم شأنه وجلال كبريائه، شبههم استحقارا لهم - وإن كانوا الجم الغفير - بكف من تراب أخذها الإنسان بكفه وطرحه في البحر! ﴿وجعلنهم أئمة﴾ أي: دعوناهم (46) دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، من قولك: جعله بخيلا، أي: دعاه وقال: إنه بخيل.

ومعناه: إنهم دعاة إلى موجبات النار من الكفر والمعاصي، ويجوز أن يكون المعنى: خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر ومنعناهم ألطافنا، وإنما يمنع الألطاف من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغني عنه الآيات والنذر، فكأنه قال: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه.

ولولا ذلك لما خذلناهم و ﴿هم﴾ يوم القيامة مخذولون لا ينصرون ﴿من المقبوحين﴾ أي: من المطرودين المبعدين.

﴿ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون (43) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا ساحران تظهرا وقالوا إنا بكل كفرون (48) قل فأتوا بكتب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هويه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50)﴾ إنتصب ﴿بصائر﴾ على الحال، والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يعني: آتيناه الكتاب أنوارا للقلوب ﴿وهدى﴾ وإرشادا ﴿ورحمة﴾ لمن آمن به.

و ﴿الغربي﴾: المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى (عليه السلام) من الطور، والخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أي: ﴿وما كنت﴾ حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا ﴿كنت من الشاهدين﴾ للوحي إليه أو على الوحي إليه، حتى تقف بالمشاهدة على ما جرى من أمره.

﴿ولكنا أنشأنا﴾ بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك ﴿قرونا﴾ كثيرة ﴿فتطاول﴾ على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم ﴿العمر﴾ أي: أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم فأرسلناك وأوحينا إليك قصص الأنبياء وقصة موسى ﴿وما كنت ثاويا﴾ أي: مقيما ﴿في أهل مدين﴾ وهم شعيب والمؤمنون به ﴿تتلوا عليهم آياتنا﴾ تعلما منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ﴿ولكنا﴾ أرسلناك وعلمناكها وأخبرناك بها.

﴿إذ نادينا﴾ موسى، يريد ليلة المناجاة ﴿ولكن﴾ علمناك ﴿رحمة﴾، ﴿لتنذر قوما﴾ هم العرب ﴿ما أتهم من نذير﴾ في زمان الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه: ﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم﴾ (47).

﴿لولا﴾ الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، وإحدى الفاءين للعطف، والأخرى جواب ﴿لولا﴾ لكونها في حكم الأمر من حيث أن الأمر يبعث على الفعل، والباعث والمحرض من باب واحد.

والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بكفرهم: هلا ﴿أرسلت إلينا رسولا﴾ يحتجون علينا بذلك لما أرسلنا إليهم، يريد: أن إرسال الرسول إنما هو لإلزام الحجة إياهم، و ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ (48)، ﴿أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير﴾ (49) ﴿لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى﴾ (50).

ولما كانت أكثر الأعمال بالأيدي اتسع فيه حتى عبر عن كل عمل بتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب.

﴿فلما جاءهم الحق﴾ وهو الرسول المصدق بالمعجزات ﴿قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى﴾ من فلق البحر وقلب العصا حية، أو: الكتاب المنزل جملة واحدة، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم المبينة على التعنت والعناد ﴿أولم يكفروا﴾ يعني: أبناء جنسهم ومن مذهبهم وعنادهم، وهم الكفار في زمن موسى ﴿بما أوتى موسى﴾ قالوا في موسى وهارون " ساحران تظاهرا " أي: تعاونا، وقرئ: ﴿سحران﴾ (51) أي: ذوا سحر، جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو أرادوا: نوعان من السحر و ﴿إنا بكل﴾ واحد منهما ﴿كافرون﴾.

و ﴿من قبل﴾ متعلق ب? ﴿أولم يكفروا﴾، وإن تعلق ب? ﴿أوتى﴾ انقلب المعنى إلى: أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة، فقالوا في موسى ومحمد: ساحران ﴿تظهرا﴾، أو: في الكتابين ﴿ساحران﴾ وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد (صلى الله عليه وآله)، فأخبروهم أن نعته وصفته في كتابهم، فقالوا: ذلك ﴿هو أهدى﴾ مما أنزل على موسى ومما أنزل علي.

أي: ﴿فإن لم يستجيبوا﴾ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا، ولم يبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، ثم قال: ﴿ومن أضل ممن﴾ لا يتبع في دينه إلا ﴿هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي﴾ أي: لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم، وقوله: ﴿بغير هدى﴾ في موضع الحال، أي: مخذولا.

﴿ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعملنا ولكم أعملكم سلم عليكم لا نبتغي الجهلين (55) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرا ت كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57) وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)﴾ أي: آتيناهم القرآن متتابعا متواصلا، وعدا ووعيدا، وعبرا ومواعظ، إرادة أن يتذكروا فيفلحوا، فنزلناه (52) عليهم نزولا متصلا بعضه في إثر بعض.

﴿الذين آتيناهم الكتاب من قبله﴾ أي: من قبل محمد (صلى الله عليه وآله) أو القرآن، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: هم أربعون من أهل الإنجيل، جاءوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وثمانية من الشام، منهم بحيرا (53).

﴿إنه الحق﴾ تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله يوجب أن يؤمن به، و ﴿إنا كنا من قبله مسلمين﴾ بيان لقولهم: ﴿آمنا به﴾ أخبروا أن إيمانهم به متقادم، و " الإسلام " صفة كل موحد مصدق بالوحي.

﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا﴾ بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن، أو: بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله أو بعد نزوله، أو: بصبرهم على أذي المشركين وأهل الكتاب، ونحوه: ﴿يؤتكم كفلين من رحمته﴾ (54)، ﴿ويدرءون﴾ بالإيمان والطاعة المعاصي المتقدمة أو بالحلم الأذي.

﴿سلم عليكم﴾ متاركة وتوديع.

وعن الحسن: كلمة حلم من المؤمنين (55) ﴿لا نبتغي الجهلين﴾ لا نريد مخالطتهم، ولا نطلب مجالستهم ومصاحبتهم.

﴿لا تهدي من أحببت﴾ لا تقدر أن تدخل في الإيمان كل من أحببت أن تدخل فيه من قومك وغيرهم ﴿ولكن الله﴾ يدخل فيه ﴿من يشاء﴾ وهو من علم أن الألطاف تنفع فيه ﴿وهو أعلم﴾ بالذين يهتدون باللطف، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) حريصا على إيمان قومه وإقرارهم بنبوته، فأخبره سبحانه بأن ذلك ليس في مقدوره.

وقالوا: إن الآية نزلت في أبي طالب (56)، وقد ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام): أن أبا طالب مات مسلما، واجتمعت الإمامية على ذلك، وأشعاره مشحونة بالإسلام وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله) (57).

﴿وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف﴾ أي: نستلب ﴿من أرضنا﴾ قيل: إن القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، قال: إنما نحن أكلة رأس، أي: قليلون، ونخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا، فرد الله عليهم بقوله: ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا﴾ والعرب حوله يتغاورون، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون ﴿يجبى﴾ إليهم الثمرات من كل أرض، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا آمنوا به ووحدوه وصدقوا رسوله؟(58).

وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز، و ﴿يجبى﴾ من: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته، ومعنى الكلية الكثرة كما في قوله: ﴿وأوتيت من كل شئ﴾ (59)، ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ تعلق بقوله: ﴿من لدنا﴾ أي: قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا ذلك لما خافوا التخطف إذا آمنوا به، و ﴿رزقا﴾ مفعول له أو مصدر، لأن معنى ﴿يجبى إليه ثمرا ت كل شئ﴾ و " يرزق ثمرات كل شئ " واحد.

﴿وكم أهلكنا﴾ تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانت حالهم مثل حالهم في كفرانهم نعم الله تعالى ومقابلتها بالأشر حتى دمرهم الله وأبادهم.

وانتصب قوله: ﴿معيشتها﴾ بحذف الجار وإيصال الفعل كما في قوله: ﴿واختار موسى قومه﴾ (60)، أو بالظرف بتقدير حذف الزمان المضاف أي: بطرت أيام معيشتها، كخفوق النجم، أو: بتضمين " بطرت " معنى " غمطت " و " كفرت "، والبطر: سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حق الله فيه ﴿إلا قليلا﴾ من السكنى لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة ﴿وكنا نحن الوارثين﴾ لتلك المساكن من ساكنيها تركناها على حال لا يسكنها أحد، أو: كنا خربناها فسويناها بالأرض.

﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59) وما أوتيتم من شئ فمتع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدنه وعدا حسنا فهو لقيه كمن متعناه متع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيمة من المحضرين (61) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (62) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)﴾ أي: ﴿وما كان﴾ من أمر ﴿ربك﴾ أن يهلك ﴿القرى﴾ في الأرض ﴿حتى يبعث﴾ في أم القرى أي: مكة ﴿رسولا﴾ وهو محمد صلوات الله عليه وآله خاتم الأنبياء، أو: ما كان مهلك القرى في كل وقت حتى يبعث في القرية التي هي أمها أي: أصلها رسولا لإلزام الحجة عليهم.

وهذا إخبار عن تنزيهه عن الظلم حيث لا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة عليهم ببعثة الرسل، مع علمه بأنهم لا يؤمنون، ولم يجعل علمه بهم حجة عليهم.

﴿وما﴾ أعطيتم من أسباب الدنيا فتمتع وزينة أياما قلائل، وهي مدة الحياة المنقضية ﴿وما عند الله﴾ وهو الثواب ﴿خير وأبقى﴾ لأن بقاءه سرمدا ﴿فلا تعقلون﴾ وقرئ بالتاء والياء (61).

﴿أفمن وعدنه﴾ هذا تقرير للأمة (62) التي قبلها، أي: أفبعد هذا التفاوت الظاهر سوى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة، والوعد الحسن: الثواب لأنه منافع دائمة مقارنة للتعظيم والإجلال ﴿فهو لقيه﴾ كقوله: ﴿ولقبهم نضرة وسرورا﴾ (63)، ﴿من المحضرين﴾ أي: من الذين أحضروا النار، ونحوه: ﴿فكذبوه فإنهم لمحضرون﴾ (64)، وقرئ: " ثم هو " بسكون الهاء (65)، كما قيل: عضد في عضد تشبيها للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في " وهو " " فهو " " لهو " أحسن، لأن الحرف الواحد لا ينطق به وحده، فهو كالمتصل.

﴿شركائي﴾ مبني على زعمهم، وهو تهكم.

ومفعولا " زعم " محذوفان هنا، والتقدير: الذي كنتم تزعمونهم شركائي، وهذا جائز وإن لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين.

و ﴿الذين حق عليهم القول﴾ الشياطين أو رؤساء الضلالة، ومعنى ﴿حق عليهم القول﴾: وجب عليهم مقتضى القول وهو قوله: ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (66)، ﴿هؤلاء﴾ مبتدأ و ﴿الذين أغوينا﴾ صفته، وحذف العائد إلى الموصول، و ﴿أغويناهم﴾ خبر المبتدأ، والكاف صفة مصدر محذوف، وتقديره: أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون أنهم غووا باختيارهم كما غوينا نحن باختيارنا، لأن إغواءنا لهم كان وسوسة وتسويلا لا قسرا ولجأ ﴿تبرأنا إليك﴾ منهم ومما اختاروه من الكفر ﴿ما كانوا إيانا يعبدون﴾ إنما يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم، وإخلاء الجملتين من حرف العطف إنما هو لتقريرهما معنى الجملة الأولى ﴿لو أنهم كانوا يهتدون﴾ بوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب ثم يبكتون بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل، ويسألون سؤال تقرير الذنب.

﴿فعميت عليهم الأنباء﴾ فصارت الأنباء مشتبهة طرق جوابها عليهم ﴿فهم﴾ كالعمي تنسد عليهم طرق الأرض ﴿فهم لا يتساءلون﴾ لا يتساءل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم وعجزهم عن الجواب، والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.

﴿فأما من تاب وآمن وعمل صلحا فعسى أن يكون من المفلحين (67) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحن الله وتعالى عما يشركون (68) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهنكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75)﴾

﴿فأما من تاب﴾ من المشركين، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح ﴿فعسى﴾ أن يفلح عند الله، و " عسى " من الكرام تحقيق.

و ﴿الخيرة﴾ من التخير، كالطيرة من التطير، يستعمل بمعنى المصدر وبمعنى المتخير، يقال: محمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله من خلقه، وقوله: ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ بيان لقوله: ﴿ويختار﴾، فإن معناه: ويختار ﴿ما يشاء﴾ ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى: إن الخيرة لله في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، وليس لأحد من خلقه الاختيار، إذ لا طريق له إلى العلم بجميع أحوال المختار.

وقيل: معناه: ويختار الذي لهم فيه الخيرة (67)، فحذف فيه كما حذف منه في قوله: ﴿إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ (68) أن يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، والحمد في ﴿الآخرة﴾ قولهم: ﴿الحمد لله الذي صدقنا وعده﴾ (69) والتحميد هناك على وجه اللذة كالكلفة (70).

﴿أرأيتم﴾ معناه: أخبروني من يقدر على هذا؟والسرمد: الدائم المتصل، من السرد، والميم مزيدة، والمراد بالضياء: ضوء الشمس، وقرن به ﴿أفلا تسمعون﴾ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده.

وقرن بالليل ﴿أفلا تبصرون﴾ لان غيرك يبصر ما تبصره من منفعة الظلام.

﴿ومن رحمته﴾ زاوج بين الليل والنهار ﴿لتسكنوا﴾ في أحدهما ﴿ولتبتغوا من﴾ فضل الله في الآخر، ولإرادة شكركم، وقد سلكت فيه طريقة اللف.

وكرر سبحانه التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأن الشرك أجلب الأشياء لغضب الله، كما أن التوحيد أجمع لمرضاته.

﴿ونزعنا﴾ أي: وأخرجنا ﴿من كل أمة شهيدا﴾ وهو نبيهم، يشهد على تلك الأمة بما كان منها، وقيل: هم عدول الآخرة الذين لا يخلو زمان من واحد منهم (71) فقلنا للأمة: ﴿هاتوا برهنكم﴾ فيما ذهبتم إليه وكنتم عليه، فعلموا حينئذ أن الحق لله ولرسوله ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ من الأباطيل.

﴿إن قرون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77) قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسل عن ذنوبهم المجرمون (78) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل ما أوتى قرون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صلحا ولا يلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)﴾

﴿قرون﴾ اسم أعجمي كان من بني إسرائيل، وهو ابن خالة موسى، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، ولما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرئاسة لهارون فقرب القربان وجد قارون في نفسه ﴿فبغى عليهم﴾ من البغي الذي هو الكبر والبذخ، والمفاتح: جمع المفتح، وهو ما يفتح به، وقيل: هي الخزائن (72)، واحدها مفتح، وناء به الحمل: إذا أثقله حتى أماله، والعصبة: الجماعة الكثيرة، و ﴿إذ﴾ نصب ب? " تنوء "، ﴿لا تفرح﴾ أي: لا تأشر ولا تتكبر بسبب كنوزك.

﴿وابتغ فيما آتاك الله﴾ من الغنى ﴿الدار الآخرة﴾ بأن تفعل فيه أفعال الخير تزود بها إلى الآخرة ﴿ولا تنس نصيبك﴾ وهو أن تأخذ منها ما يكفيك ﴿وأحسن﴾ إلى عباد الله ﴿كما أحسن الله إليك﴾ وقيل: إن المخاطب بذلك موسى (عليه السلام) (73).

﴿على علم﴾ على استحقاق واستيجاب لما في من العلم الذي فضلت به الناس، وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة، وقيل: هو علم الكيمياء (74)، وقيل: علم الله تعالى موسى (عليه السلام) علم الكيمياء فعلمه موسى أخته فعلمته أخته قارون (75)، وقال: ﴿عندي﴾ معناه: في ظني كما يقول: الأمر عندي كذا، أي: هو في ظني ورأيي هكذا ﴿أولم يعلم﴾ في جملة ما عنده من العلم وقرأه في التوراة ﴿أن الله قد أهلك من قبله﴾ من هو أقوى منه فلا يغتر بكثرة ماله وقوته، ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك ﴿وأكثر جمعا﴾ للمال، أو: أكثر جماعة وعددا ﴿ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون﴾ بل يدخلون النار بغير حساب.

﴿في زينته﴾ التي كان يتزين بها، وهو حشمه وخيله، والحظ والجد: البخت والدولة.

ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، والضمير في ﴿ولا يلقاها﴾ للكلمة التي تكلم بها العلماء، أو للثواب لأنه في معنى المثوبة.

﴿من المنتصرين﴾ من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب الله، يقال: نصره من عدوه فانتصر، أي: منعه منه فامتنع.

أراد ﴿بالأمس﴾ الوقت القريب على طريق الاستعارة، والمكان: المنزلة ﴿وي﴾ مفصولة من ﴿كأن﴾ وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم، والمعنى: أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا، ثم قالوا: كأن الله، أي: ما أشبه الحال بأن الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامة ﴿ويقدر﴾ أي: يضيق على من يشاء لا لهوان، لكن بحسب المصلحة، ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح.

وعند الكوفيين أن " ويك " بمعنى " ويلك "، وأن المعنى: ألم تعلم أنه ﴿لا يفلح الكافرون﴾، ويجوز أن يكون الكاف كاف الخطاب قد ضمت إلى " وي "، كقوله: ويك عنتر أقدم (76) و " أنه " بمعنى " لأنه "، واللام للبيان الذي قيل لأجله هذا القول، أو: لأنه يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون، وقرئ: " لخسف بنا " (77) وفيه ضمير لله.

﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعقبة للمتقين (83) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84) إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلل مبين (85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86) ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)﴾

﴿تلك﴾ تعظيم للدار وتفخيم لها، أي: تلك التي بلغك صفتها.

علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد، ولم يقل: لا يعلون ولا يفسدون، كما علق الوعيد بالركون في قوله: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ (78).

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها (79).

وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا (80)، ﴿والعقبة﴾ الحميدة للذين اتقوا معاصي الله.

المعنى: فلا يجزون، فوضع الظاهر موضع الضمير، لأن في إسناد السيئات إليهم مكررا زيادة تهجير لهم.

﴿إن الذي فرض عليك القرآن﴾ أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه يثيبك عليه ثوابا لا يحاط بكنهه، و ﴿لرادك﴾ بعد الموت ﴿إلى معاد﴾ أي معاد، وإلى معاد ليس لغيرك من الخلق، ونكر المعاد لذلك، وقيل: أراد بالمعاد مكة فرده إليها يوم الفتح (81)، ووجه تنكيره أن كان معادا له ذكر عال وشأن جليل، ظهر عز الإسلام وأهله به، وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مكة (82).

ولما وعده الرد إلى معاد قال: قل للمشركين: ﴿ربى أعلم من جاء بالهدى﴾ يعني: نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده ﴿ومن هو في ضلل مبين﴾ يعنهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.

﴿إلا رحمة من ربك﴾ بمعنى " لكن " للاستدراك، أي: ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك، وقيل: هو محمول على المعنى والتقدير: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة (83).

﴿بعد إذ أنزلت إليك﴾ أي: بعد وقت إنزاله إليك.

وقوله: ﴿فلا تكونن ظهيرا للكافرين﴾ وما بعده من باب التهيج الذي سبق ذكره.

وعن ابن عباس: أن أكثر القرآن: إياك أعني فاسمعي يا جارة.

و ﴿كل شئ هالك﴾ أي: فان بائد ﴿إلا وجهه﴾ إلا ذاته.

1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 127: مكية في قول قتادة والحسن عطاء وعكرمة ومجاهد، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقال ابن عباس: آية منها نزلت بالمدينة، وقيل بالجحفة، وهي قوله: * (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) *، وهي ثمانون وثمان آيات بلا خلاف في جملتها، واختلفوا في رأس آيتين. وفي الكشاف: ج 3 ص 391: مكية إلا من آية 52 إلى غاية آية 55 فمدنية، وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة، وآياتها 88، نزلت بعد النمل. وفي تفسير الآلوسي: ج 20 ص 41 ما لفظه: مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب) * إلى قوله: * (لا نبتغي الجاهلين) * فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد، وفي رواية عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) للهجرة، وقيل: نزلت بين مكة والجحفة.

2- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 437 مرسلا، وزاد في آخره: " ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شئ هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون ".

3- المؤمنون: 20.

4- قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 593.

5- قرأه حمزة والكسائي. راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 2 ص 172.

6- حكاها الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 394.

7- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 33.

8- قاله مالك كما حكاه القرطبي في تفسيره: ج 13 ص 255.

9- إبراهيم: 43.

10- وهو من قصيدة يهجو بها أبا سفيان لما بلغه هجاؤه للنبي (صلى الله عليه وآله). راجع ديوان حسان بن ثابت: ص 28.

11- قاله ابن مسعود. راجع تفسير القرطبي: ج 13 ص 256.

12- رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 40 عن طرق.

13- قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 241.

14- وهو قول الطبري في تفسيره: ج 10 ص 42.

15- قاله مجاهد. راجع المصدر السابق: ص 45.

16- قاله السيد المرتضى كما في مجمع البيان: ج 7 ص 245.

17- في نسخة: " أوليائك ".

18- حكاها الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 137.

19- قاله الزجاج. راجع المصدر السابق.

20- قاله قتادة والضحاك والكلبي. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 49.

21- تفسير ابن عباس: ص 325.

22- خائفا خ ل.

23- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 400.

24- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 139.

25- قرأه ابن عامر وأبو عمرو. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 171.

26- قاله شريح. راجع التبيان: ج 8 ص 142.

27- قاله الزجاج على ما حكاه القرطبي في تفسيره: ج 13 ص 269.

28- في المخطوطة زيادة: واحدة.

29- في نسخة زيادة: " كبير السن ".

30- في نسخة: " بالغة ".

31- قرأ عاصم بفتح الجيم، وحمزة وخلف بضمها، والباقون بكسرها. راجع التبيان: ج 8 ص 144.

32- وبالتشديد قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع المصدر السابق: ص 147.

33- في نسخة زيادة: " يثبتان ".

34- البيت لسلامة بن جندل، يقول: وردئي الذي أتوقى به المكاره كل سيف قاطع أبيض. راجع الكشاف: ج 3 ص 409.

35- قرأه نافع. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 594.

36- قرأ حمزة وعاصم بالرفع والباقون بالجزم راجع التبيان: ج 8 ص 147.

37- مريم: 5 و 6.

38- البيت منسوب لطرفة بن العبد، وقيل: لأوس بن حجر، يهجو بني لبينى من بني أسد بن وائلة، يقول في مقام ذمهم: لستم مثل يد من الأيدي في القوة إلا مثل يد لا عضد لها، فهي صعبة ومشلولة. راجع ديوان طرفة: ص 147، وديوان أوس: ص 21.

39- في بعض النسخ: " لم نسمع بكون ما تدعيه فيهم ".

40- الرعد: 22 و 23.

41- قرأه ابن كثير. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 171.

42- وبالياء هي قراءة أهل الكوفة إلا عاصما. راجع التبيان: ج 8 ص 151.

43- في بعض النسخ زيادة: " أي فأجج النار على الطين ".

44- رواه أحمد في المسند: ج 2 ص 414.

45- وبالفتح قرأه نافع وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 494.

46- في نسخة زيادة: " أنهم ".

47- يس: 6.

48- النساء: 165.

49- المائدة: 19.

50- طه: 134.

51- الظاهر أن المصنف يعتمد على قراءة فتح السين وألف بعدها هنا تبعا للزمخشري في الكشاف.

52- في نسخة: " أو أنزلنا ".

53- قاله سعيد بن جبير وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 257.

54- الحديد: 28.

55- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 422.

56- كقول ابن عباس كما رووه عنه ومجاهد والحسن وقتادة. انظر التبيان: ج 8 ص 164.

57- نحو قوله: لقد أكرم الله النبي محمدا * فأكرم خلق الله في الناس أحمد وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد وغيرها الكثير. راجع ديوان أبي طالب ضمن سلسلة " شعراؤنا " ط دار الكتاب العربي بيروت.

58- قاله ابن عباس. انظر تفسيره: ص 328.

59- النمل: 23.

60- الأعراف: 155.

61- وبالياء قراءة أبو عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 495.

62- في نسخة: " للآية ".

63- الإنسان: 11.

64- الصافات: 127.

65- قرأه نافع وابن عامر في رواية قالون عنه والكسائي. راجع كتاب العنوان في القراءات: ص 146.

66- هود: 119.

67- قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 95.

68- الشورى: 43.

69- الزمر: 74.

70- في بعض النسخ: " لا الكلفة ".

71- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 174.

72- قاله السدي وأبو رزين. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 266.

73- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 177.

74- قاله سعيد بن المسيب. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 455.

75- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 431.

76- وتمام البيت: ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها * قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم وهو من معلقته المشهورة. راجع ديوان عنترة: ص 18.

77- وهي قراءة الجمهور إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 495.

78- هود: 113.

79- رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 115.

80- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 435.

81- قاله ابن عباس ومجاهد وأبو الحجاج، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 117 - 118.

82- قاله الضحاك. راجع تفسير ابن كثير: ج 3 ص 388.

83- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 436.