سورة النمل

مكية (1) أربع وتسعون آية بصري، ثلاث كوفي، عد البصري ﴿من قوارير﴾ آية (2).

وفي حديث أبي: " من قرأ طس سليمان، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بسليمان وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعملهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العلمين (8) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10)﴾

﴿تلك﴾ مبتدأ و ﴿آيات القرآن﴾ خبره و ﴿هدى﴾ خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ مضمر، أو نصب على الحال، أي: هادية ومبشرة.

﴿وهم بالآخرة هم يوقنون﴾ أي: هؤلاء هم الموقنون بالآخرة، ومعناه: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

﴿زينا لهم أعملهم﴾ أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسند ذلك إلى الشيطان في قوله: ﴿وزين لهم الشيطان أعملهم﴾ (4)، وبين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز اسمه استعارة أو مجاز حكمي، فالاستعارة هي أنه لما متعهم بطول العمر والتوسعة في الرزق فجعلوا إنعامه بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عن لوازم التكليف، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإلى هذا أشارت الملائكة في قولهم: ﴿ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر﴾ (5).

وأما المجاز الحكمي: هو أن إمهاله الشيطان بتخليته حتى زين لهم أعمالهم القبيحة، وخلقه فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إليها، وحرمانه إياهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم، كالأسباب للتزيين، فلذلك أضاف التزيين إلى ذاته.

والعمه: التحير والتردد.

و ﴿سوء العذاب﴾ هو القتل والأسر يوم بدر، و ﴿الأخسرون﴾ أشد الناس خسرانا لأنهم يخسرون الثواب الدائم ويحصلون في العقاب الدائم.

﴿تلقى القرآن﴾ أي: تؤتاه وتلقنه من عند أي ﴿حكيم﴾ وأي ﴿عليم﴾، وهذا معنى مجيئهما نكرتين.

وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يقصه بعدها من الأقاصيص، لما فيها من لطائف حكمته ودقائق علمه.

﴿إذ﴾ منصوب بمضمر وهو " أذكر "، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ويجوز أن ينتصب ب? ﴿عليم﴾.

لم يكن مع موسى غير امرأته وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله: ﴿امكثوا﴾ و ﴿آتيكم﴾، ﴿إني آنست نارا﴾ أي: أبصرتها، والشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، وأضاف " الشهاب " إلى " القبس " (6) لأنه يكون قبسا وغير قبس، وقرئ: ﴿بشهاب﴾ منونا، فيكون ﴿قبس﴾ بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس، وقال: ﴿سآتيكم﴾ فجاء بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ وجاء بلفظه، أو لأنه بنى الأمر على أنه: إن لم يظفر بأحد الأمرين لم يعدم الآخر: إما هداية الطريق وإما اقتباس النار، لأنه كان قد ضل عن الطريق، وأراد بالخبر: معرفة حال الطريق ﴿لعلكم تصطلون﴾ تستدفئون بها، وما أدراه حين قال ذلك أنه يظفر على النار بعز الدنيا وعز الآخرة.

﴿أن بورك﴾ مفسرة، لأن النداء فيه معنى القول، أي: قيل له: ﴿بورك من في النار ومن حولها﴾ والمعنى: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة، ويدل عليه قراءة أبي: " تباركت الأرض ومن حولها " (7).

والذي بوركت له البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله جل جلاله موسى (عليه السلام) واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وقيل: المراد بمن بورك: موسى والملائكة (8)، والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وذلك الوادي وحواليها من أرض الشام، كما وسم سبحانه أرض الشام بالبركات في قوله: ﴿ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعلمين﴾ (9).

والفائدة في ابتداء الخطاب من الله تعالى بذلك أنه بشارة من الله تعالى لموسى (عليه السلام) بأنه قد قضي أمر عظيم ينتشر (10) منه في أرض الشام كلها البركات والخيرات ﴿وسبحان الله رب العلمين﴾ إعلام بأن ذلك الأمر من جلائل الأمور، وأن مكونه رب العالمين.

﴿إنه﴾ الضمير للشأن ﴿أنا الله﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿العزيز الحكيم﴾ صفتان له، أي: أنا القوي القادر الذي لا يمتنع عليه شئ، المحكم لتدابيره.

﴿وألق عصاك﴾ عطف على ﴿بورك﴾ وكلاهما تفسير ل? ﴿نودي﴾، والمعنى: قيل له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك، بدلالة قوله: ﴿وأن ألق عصاك﴾ في سورة القصص (11) على تكرير حرف التفسير ﴿ولم يعقب﴾ أي: لم يرجع، يقال: عقب المقاتل: إذا كر بعد الفرار، قال: فما عقبوا إذ قيل هل من معقب * ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا (12) وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه قوله: ﴿إني لا يخاف لدي المرسلون﴾.

﴿إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فسقين (12) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عقبة المفسدين (14)﴾

﴿إلا﴾ بمعنى " لكن "، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنة لطروء الشبهة، فاستدرك ذلك ب? " لكن "، والمعنى: لكن ﴿من ظلم﴾ من غير المرسلين ﴿ثم بدل﴾ توبة وندما على ما فعله من السوء، وعزما على أن لا يعود فيما بعد ﴿فإني غفور رحيم﴾ لظلمه.

﴿في تسع آيات﴾ كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف، والمعنى: واذهب في تسع آيات إلى فرعون، ونحوه: فقلت إلى الطعام فقال منهم * فريق: نحسد الإنس الطعاما (13) ويجوز أن يكون المعنى: ﴿وألق عصاك... وأدخل يدك﴾ في جملة " تسع آيات " وعدادهن.

المبصرة: الواضحة البينة، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لأنهم ملابسوها، وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها، أو: جعلت كأنها تبصر فتهتدي (14)، لأن الأعمى لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره، ومنه قولهم: عوراء لأنها تغوي.

وقرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) وقتادة " مبصرة " (15) وهي نحو: مجنبة ومنجلة أي: مكانا يكثر فيه التبصرة (16).

الواو في ﴿واستيقنتها﴾ واو الحال، و " قد " مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله: ﴿وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون﴾ (17) والمعنى: جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.

﴿ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مسكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19)﴾ أي: ﴿علما﴾ جليلا (18) سنيا أو كثيرا من العلم، أي: آتيناهما علما فعملا به وعلماه ﴿وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين﴾ وفي هذا دلالة على شرف العلم وفضله وتقدم أهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من الأمم.

﴿وورث سليمان داوود﴾ فيه دلالة على أن الأنبياء يورثون كتوريث غيرهم، لأن إطلاق اللفظ يقتضي ذلك ﴿وقال يا أيها الناس علمنا﴾ فيه تشهير لنعمة الله واعتراف بها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجز الذي هو علم ﴿منطق الطير﴾ وغير ذلك مما أوتيه من جلائل الأمور، والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، والذي علم سليمان من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه، كما يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال: إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء (19) ﴿وأوتينا من كل شئ﴾ يريد كثرة ما أوتيه ﴿إن هذا لهو الفضل المبين﴾ وعن الصادق (عليه السلام): يعني الملك والنبوة (20).

سخر الله له الريح والجن والإنس والطير، فكان إذا خرج إلى مجلسه عكف عليه الطير، وقام الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أذله وأدخله في الإسلام.

ويروى أنه خرج من بيت المقدس مع ستمائة ألف كرسي عن يمينه ويساره، وأمر الطير فأظلتهم، وأمر الريح فحملتهم حتى وردت بهم المدائن، ثم رجع فبات في إصطخر، فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم قط ملكا أعظم من هذا أو سمعتم؟قالوا: لا، فنادى ملك من السماء: لثواب تسبيحة واحدة في الله أعظم مما رأيتم! ﴿فهم يوزعون﴾ أي: يحبس أولهم على آخرهم بأن توقف هواديهم حتى يلحقهم تواليهم، فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.

فسار سليمان بجنوده ﴿حتى إذا أتوا على واد النمل﴾ وهو واد بالطائف أو بالشام كثير النمل، وإنما عدي ﴿أتوا﴾ ب? ﴿على﴾ لأن إتيانهم كان من فوق، أو هو من قولهم: أتى على الشئ: إذا أنفذه وبلغ آخره، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف عليهم الحطم.

ويمكن أن يكون جنود سليمان كانوا ركبانا ومشاة في ذلك الوقت ولم تحملهم الريح، أو كانت القصة قبل أن سخر الله الريح له.

ولما كان صوت النمل مفهوما لسليمان عبر عنه بالقول، ولما جعلت النملة قائلة والنمل مقولا لهم كما في " أولي العقول " أجرى خطابهم، و ﴿لا يحطمنكم﴾ جواب الأمر أو نهي بدل من الأمر، لأن " ادخلوا في مساكنكم " في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، والمراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.

﴿فتبسم ضاحكا من قولها﴾ أي: أخذ في الضحك، يعني: أنه قد تجاوز التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء، وإنما ضحك لإعجابه بما دل من قولها على ظهور شفقة جنوده وشهرة حالهم في التقوى حيث قالت: ﴿وهم لا يشعرون﴾، أو لسروره بما آتاه الله من إدراكه بسمعه ما همس به أصغر خلق الله وإحاطته بمعناه، ولذلك قال: ﴿رب أوزعني﴾ أي: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأرتبطه لا ينفلت (21) عني، حتى لا أزال شاكرا لك وذاكرا إنعامك ﴿على وعلى والدي﴾ بأن أكرمته بالنبوة وغيرها، وعلى والدتي بأن زوجتها نبيك، جعل النعمة عليهما نعمة عليه يلزمه شكرها ﴿وأن أعمل صلحا ترضه﴾ استوقفه سبحانه لزيادة العمل الصالح في المستقبل ﴿في عبادك الصالحين﴾ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من النبيين، أي: أدخلني في جملتهم.

﴿وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (22) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعملهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)﴾

﴿أم﴾ منقطعة، نظر سليمان (عليه السلام) إلى مكان الهدهد فلم يره، فقال: ﴿مالي﴾ لا أراه؟على معنى: أنه لا يراه وهو حاضر، لساتر أو غيره، ثم ظهر له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: هو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما ظهر له من غيبته، فهو نحو قولهم: إنها الإبل أم شاء.

ويروى أن أبا حنيفة سأل أبا عبد الله الصادق (عليه السلام): كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟فقال: لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فضحك أبو حنيفة وقال: كيف لا يرى الفخ في التراب ويرى الماء في بطن الأرض ؟! قال: يا نعمان، أو ما علمت أنه إذا نزل القدر غشي البصر (22).

﴿لأعذبنه﴾ بنتف ريشه وتشميسه، وقيل: بالتفريق بينه وبين إلفه (23)، وقرئ: " ليأتينني " بنونين أولهما مشددة (24)، وبنون واحدة مشددة، والسلطان: الحجة والعذر.

قرئ ﴿فمكث﴾ بفتح الكاف وضمها (25)، ﴿غير بعيد﴾ كقولك: عن قريب، وصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان وتسخيره له، وقرئ: ﴿أحطت﴾ بإدغام الطاء بالتاء بإطباق (26) وغير إطباق (27).

وعن ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة وعذر فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه ﴿وجئتك﴾ بخبر صادق لم تعلمه (28).

ألهم الله الهدهد فكافحه بهذا الكلام مع ما أوتي من العلوم الكثيرة، ابتلاء له في علمه وتنبيها له على أن في أدنى خلقه من أحاط (29) ﴿بما لم تحط به﴾ ليكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وقرئ: ﴿سبأ﴾ بالهمزة منونا وغير منون على منع الصرف (30)، و " سبا " بالألف (31)، ومثله في سورة سبأ: ﴿لقد كان لسبأ﴾ (32)، وهو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرفه، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر صرفه، ثم سميت مدينة مأرب ب? " سبأ "، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، كما سميت معافر ب? " معافر بن أد "، والنبأ: الخبر الذي له شأن.

﴿وجدت امرأة﴾ وهي بلقيس بنت شراحيل أو شرحيل، كان أبوها ملك أرض اليمن كلها ﴿وأوتيت من كل شئ﴾ مما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا ﴿ولها عرش عظيم﴾ سرير أعظم من سريرك، مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة، وكان عليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.

وقال أبو مسلم: أراد بالعرش الملك (33).

وقرئ: ﴿ألا يسجدوا﴾ بالتشديد على أن المراد: فصدهم الشيطان عن السبيل لأن لا يسجدوا، فحذف الجار، وقرئ بالتخفيف وهو " ألا يا اسجدوا " (34): " ألا " للتنبيه، و " يا " حرف النداء، والمنادى محذوف، كما حذفه من قال: ألا يا اسلمي... (35) ﴿الذي يخرج الخب ء﴾ أي: المخبوء في السماء (36)، سماه بالمصدر، وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وجل من غيوبه، وقرئ: ﴿الخب ء﴾ بتخفيف الهمزة بالحذف (37).

وقيل: إن الجميع من قوله: ﴿أحطت﴾ إلى قوله: ﴿العظيم﴾ من كلام الهدهد (38)، وقيل: ﴿ألا يسجدوا﴾ إلى آخره كلام رب العزة، أمر جميع خلقه بالسجود (39).

وفي إحدى القراءتين أمر بالسجود وفي الأخرى ذم لتاركه، فسجدة التلاوة مسنونة في كلتيهما، وإذا خفف فالوقف على ﴿لا يهتدون﴾ ومن شدد لم يقف إلا على ﴿العرش العظيم﴾، وقرئ: ﴿تخفون﴾ و ﴿تعلنون﴾ بالتاء (40).

﴿قال سننظر أصدقت أم كنت من الكذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم

(30) ألا تعلوا على وأتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35) فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (37)﴾

﴿سننظر﴾ هو من النظر بمعنى الفكر والتأمل، والمراد: ﴿أصدقت أم﴾ كذبت، إلا أن قوله: ﴿أم كنت من الكذبين﴾ أبلغ.

﴿تول عنهم﴾ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه يسمع منك ﴿ماذا يرجعون﴾ أي: ماذا يردون من الجواب، ومنه قوله تعالى: ﴿يرجع بعضهم إلى بعض القول﴾ (41) قيل: دخل عليها من الكوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة (42).

وفي الكلام اختصار كثير، أي: فمضى الهدهد وألقى إليهم الكتاب، فلما قرأته بلقيس ﴿قالت﴾ لقومها بعد أن جمعتهم: ﴿يا أيها الملأ﴾ يعني: الأشراف ﴿إني ألقى إلى كتب كريم﴾ وصفته بالكرم لأنه من عند ملك كريم، أو كتاب حسن مضمونه وما فيه، أو مختوم لقوله (عليه السلام): " كرم الكتاب ختمه " (43)، أو: لأنه صدره ببسم الله الرحمن الرحيم

.

﴿إنه من سليمان﴾ استئناف وتبيين لما ألقي إليها، كأنه قيل لها: ممن هو، وما هو؟فقالت: إنه من سليمان.

و " أن " في ﴿ألا تعلوا﴾ مفسرة، والمعنى: لا تتكبروا كما يفعل الملوك ﴿وأتوني﴾ منقادين مستسلمين، أو: مؤمنين.

الفتوى: الجواب في الحادثة، وأرادت أن يشيروا عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير، وقصدت بالرجوع إلى استشارتهم استعطافهم ليوافقوها ويقوموا معها ﴿قاطعة أمرا﴾ أي: فاصلة، لا أقطع أمرا إلا بحضوركم.

﴿نحن أولوا قوة﴾ في الأجساد والآلات والعدد ﴿وأولوا بأس﴾: أي نجدة وبلاء في الحرب ﴿والامر﴾ موكول ﴿إليك﴾ ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطع أمرك ونتبع رأيك.

فمالت إلى الصلح ورأت الابتداء بالأحسن، وذكرت في الجواب لهم عاقبة الحرب (44) وسوء مغبتها (45)، و ﴿إن الملوك إذا دخلوا قرية﴾ قسرا وعنوة خربوها، وأذلوا أعزتها، وقتلوا وأسروا، ثم قالت: ﴿وكذلك يفعلون﴾ أي: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، وقيل: هو تصديق من الله سبحانه لقولها (46).

ثم ذكرت حديث الهدية، وما رأت من الرأي في ذلك، أي: ﴿مرسلة إليهم﴾ رسلا ﴿بهدية﴾ أمانعه (47) بذلك عن ملكي ﴿فناظرة﴾ أي: منتظرة ما يكون منهم (48) حتى أعمل على حسب ذلك.

وقرئ: ﴿أتمدونن﴾ بحذف الياء والاجتزاء بالكسرة، والهدية اسم " المهدي "، كما أن العطية اسم " المعطى "، فيضاف إلى المهدي والمهدى له، والمضاف إليه في قوله: ﴿بهديتكم﴾ هو المهدى إليه، والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله عز اسمه آتاني ما لا مزيد عليه، فلا يمد مثلي بمال ﴿بل أنتم﴾ قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك ﴿تفرحون﴾ بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم، وليس حالي كحالكم، فما أرضى منكم بشئ إلا بالإيمان، ولما أنكر عليهم إمداده بالمال أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه.

ويجوز أن تكون الهدية مضافة إلى المهدي، أي: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون.

﴿ارجع﴾ خطاب للرسول ﴿لا قبل لهم بها﴾ أي: لا طاقة، وحقيقته: المقابلة والمقاومة، والمعنى: لا يقدرون أن يقابلوهم منها من أرضها ومملكتها وهم ذليلون بذهاب ما كانوا فيه من العز والملك ﴿صاغرون﴾ بوقوعهم في الاستعباد والأسر.

﴿قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوى أمين (39) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم (40) قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين (43) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العلمين (44)﴾ يروى أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، ووكلت به حرسا يحفظونه (49)، فأراد سليمان أن يريها بعض ما يخصه به الله تعالى من المعجزات الشاهدة لنبوته.

وعن الباقر (عليه السلام): " قال عفريت من عفاريت الجن " والعفريت: المارد القوي الداهي ﴿من مقامك﴾ أي: مجلسك الذي تقضي فيه ﴿وإني﴾ على الإتيان به ﴿لقوى أمين﴾ آتي به كما هو لا أبدله.

و ﴿الذي عنده علم من الكتاب﴾ وزير سليمان وابن أخته، وهو آصف بن برخيا، وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو قوله: " يا إلهنا وإله كل شئ، إلها واحدا لا إله إلا أنت "، وقيل هو: " يا حي يا قيوم "، وبالعبرانية: " آهيا شراهيا " (50)، وقيل هو: " يا ذا الجلال والإكرام " (51)، وقيل: الذي عنده علم من الكتاب ملك أيد الله به سليمان (52)، وقيل: هو جبرئيل والكتاب هو اللوح (53)، وقيل: من جنس كتب الله المنزلة على أنبيائه (54)، وقيل: هو علم الوحي والشرائع (55).

وقوله: ﴿آتيك﴾ في الموضعين يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل، " الطرف ": تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر.

ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا * لقلبك يوما أتعبتك المناظر (56) وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد، فعلى هذا يكون معنى قوله: ﴿قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ إنك ترسل طرفك إلى شئ فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك، وروي: أن آصف قال لسليمان: مد عينيك حتى تنتهي طرفك، فمد عينيه فنظر نحو اليمين، ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتد طرفه (57).

﴿ومن شكر فإنما يشكر لنفسه﴾ لأنه يرتبط به النعمة، ويحط به عن نفسه عب ء الواجب، ويستوجب المزيد ﴿ربى﴾ غني عن الشكر ﴿كريم﴾ بالإنعام على الشاكر والكافر.

﴿نكروا لها عرشها﴾ اجعلوه متنكرا متغيرا عن شكله، أراد بذلك اعتبار عقلها ﴿ننظر أتهتدي﴾ لمعرفته، أو للجواب على الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك المعجزة.

﴿أهكذا﴾ أربع كلمات: حرف الاستفهام، وحرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة.

أي: أمثل هذا عرشك؟ولم يقل: أهذا عرشك؟لئلا يكون تلقينا ﴿قالت كأنه هو﴾ ولم تقل هو هو ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، إذ لم تقطع في موضع الاحتمال ﴿وأوتينا العلم من قبلها﴾ قيل: هو من كلام بلقيس (58) أي: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان من قبل هذه المعجزة، أو: من قبل هذه الحالة، وقيل: هو من كلام سليمان وقومه (59) أي: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها، أو: أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام.

﴿وصدها﴾ عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشوؤها بين الكفار، وقيل: صدها الله أو سليمان عما ﴿كانت تعبد﴾ بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل (60).

والصرح: القصر، والممرد: المملس، وقيل: الصرح: الموضع البسيط المنكشف من غير سقف (61)، أمر سليمان الشياطين ببنائه وأجرى تحته الماء، ثم وضع له فيه سرير فجلس عليه ﴿فلما رأته﴾ بلقيس ﴿حسبته لجة﴾ وهي معظم الماء ﴿وكشفت عن ساقيها﴾ لدخول الماء، فقال لها سليمان: ﴿إنه صرح﴾ مملس ﴿من قوارير﴾ وليس بماء ﴿ظلمت نفسي﴾ يريد بكفرها فيما تقدم.

﴿ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صلحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لاية لقوم يعلمون (52) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53)﴾

﴿هم فريقان﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿إذا﴾ خبر ثان، و ﴿يختصمون﴾ حال أو صفة ل? ﴿فريقان﴾ أي: فريق مؤمن وفريق كافر، يقول كل فريق: الحق معي.

والسيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة من الشرك، ومعنى استعجالهم ﴿بالسيئة قبل الحسنة﴾ أنهم قالوا: إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب، هلا ﴿تستغفرون﴾ الله من الشرك بأن تؤمنوا ﴿لعلكم ترحمون﴾ فلا تعذبون في الدنيا.

﴿اطيرنا﴾ أي: تطيرنا بك، ومعناه: تشاءمنا بك وبمن على دينك، وكانوا قد قحطوا ﴿قال طائركم عند الله﴾ أي: سببكم الذي يجئ به خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمه، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم.

ويجوز أن يريد: عملكم مكتوب عند الله فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وابتلاء، ومنه قوله: ﴿طائركم معكم﴾ (62) ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه﴾ (63)، ﴿بل أنتم قوم تفتنون﴾ تختبرون وتبتلون أو تعذبون.

﴿وكان في المدينة﴾ التي بها صالح، وهي الحجر ﴿تسعة﴾ أنفس سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم، أي: شأنهم الإفساد البحت الذي لا يختلط بشئ من الصلاح.

﴿تقاسموا﴾ يجوز أن يكون أمرا، ويجوز أن يكون خبرا في محل الحال بإضمار " قد "، أي: قالوا متقاسمين: ﴿لنبيتنه﴾ أي: لنقتلن صالحا وأهله، وقرئ: " لتبيتنه " بالتاء وضم التاء الثانية " ثم لتقولن " (64)، وعلى هذا يكون ﴿تقاسموا﴾ أمرا لا غير، والتقاسم: التحالف، والبيات: مباغتة العدو ليلا، وقرئ: " مهلك " من الهلاك و " مهلك " من الإهلاك (65).

﴿ومكروا مكرا﴾ بأن أخفوا تدبيرا للفتك بصالح وأهله ﴿ومكرنا﴾ بإهلاكهم من حيث ﴿لا يشعرون﴾ شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.

" إنا دمرناهم " (66) استئناف، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من " العاقبة "، أو: على أنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هي تدميرهم، أو نصبه على خبر ﴿كان﴾ أي: كان عاقبة مكرهم الدمار، أو على معنى " لأنا ".

و ﴿خاوية﴾ نصب على الحال من معنى الإشارة، أي: فارغة خالية بظلمهم وكفرهم (67).

وعن ابن عباس: أجد في كتاب الله عز اسمه أن الظلم يخرب البيوت، وتلا هذه الآية (68).

﴿ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين (58)﴾ أرسلنا لوطا ﴿وأنتم تبصرون﴾ من: بصر القلب، أي: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، أو: تبصرونها، لأنهم كانوا يرتكبون ذلك معالنين به، لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة أو مجانة، أو: تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم.

﴿تجهلون﴾ تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو: تجهلون العاقبة.

﴿يتطهرون﴾ يتنزهون عن هذا الفعل وينكرونه، وعن ابن عباس: هو استهزاء (69).

أي: قدرنا كونها ﴿من الغابرين﴾ أي: الباقين في العذاب، فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.

﴿قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفي أألله خير أما يشركون (59) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خللها أنهرا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمت البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعلى الله عما يشركون (63) أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهنكم إن كنتم صادقين (64) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65)﴾ فيه بعث على الاستفتاح بالتحميد والسلام على المصطفين من عباده، والتيمن بالذكرين، والاستظهار بهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وقيل: اتصل بما قبله إذا جعل تحميدا على الهالكين من كفار الأمم، والصلاة على الأنبياء وأشياعهم الناجين (70).

وعنهم (عليهم السلام): أن ﴿الذين اصطفي﴾ محمد وآله (عليهم السلام) (71).

﴿أألله خير﴾ لمن عبده أم الأصنام لعابديها؟وهذا إلزام للحجة على المشركين بعد ذكر هلاك الكفار.

وعن الصادق (عليه السلام): يقول إذا قرأها: " الله خير " ثلاث مرات (72).

و " أم " في ﴿أما يشركون﴾ متصلة، والمعنى: أيهما خير؟وهي في: ﴿أمن خلق﴾ منقطعة، والمعنى: بل أمن خلق السماوات والأرض خير.

وفيه تقرير لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شئ.

وفي قوله: ﴿فأنبتنا به﴾ وانتقاله إلى التكلم عن ذاته بعد الإخبار عن الغيبة على طريق الالتفات تأكيد لمعنى اختصاص الفعل بذاته، وأنه لا يقدر على إنبات الحدائق مع بهجتها وبهائها إلا هو وحده.

ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: ﴿ما كان لكم أن تنبتوا شجرها﴾ ومعنى الكينونة: الابتغاء، يعني: أن تأتي ذلك من غيره محال، وكذلك قوله: ﴿بل هم﴾ بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم.

والحديقة: البستان عليه حائط، من قولهم: أحدقوا به أي: أحاطوا به، و ﴿ذات بهجة﴾ بمعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت، والبهجة: الحسن لأن الناظر يبتهج به ﴿أإله مع الله﴾ أغيره يقترن به ويجعل شريكا له؟ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدة، وأن تخرج الثانية بين بين ﴿يعدلون﴾ به غيره، أو: يعدلون عن الحق والتوحيد.

﴿أمن جعل﴾ وما بعده بدل من ﴿أمن خلق﴾ وحكمها حكمه ﴿قرارا﴾ سواها للاستقرار عليها ﴿حاجزا﴾ أي: برزخا.

الاضطرار: افتعال من الضرورة، والمضطر: الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الأيام إلى التضرع إلى الله تعالى، يقال: إضطره إلى كذا، والفاعل والمفعول: مضطر ﴿ويكشف السوء﴾ أي: الشدة وكل ما يسوء ﴿ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ خلفاء فيها، تتوارثون التصرف فيها خلفا بعد سلف وقرنا بعد قرن، أو: أراد بالخلافة الملك والتسلط، و ﴿ما﴾ مزيدة أي: يذكرون تذكيرا قليلا، والمعنى: نفي التذكر، وقرئ بالياء مع الإدغام، وبالتاء مع الإدغام والحذف (73).

﴿أمن يهديكم﴾ بالنجوم في السماء، وبالعلامات في الأرض إذا جن عليكم الليل وأنتم مسافرون في البحر أو البر؟﴿أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده﴾ أقروا بالابتداء والإنشاء فيلزمهم الإقرار بالإعادة بعد الفناء ﴿من السماء﴾ بإنزال الأمطار ومن ﴿الأرض﴾ بالنبات والثمار.

وجاء قوله: ﴿إلا الله﴾ على لغة بني تميم في قولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وقول الشاعر: وبلدة ليس لها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (74) وإنما اختير هذا ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، كما كان المعنى في البيت: إن كان اليعافير أنيسا ففيها أنيس ﴿أيان﴾ بمعنى " متى ".

﴿بل ادا رك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66) وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتب مبين (75)﴾ قرئ: ﴿بل ادارك﴾ و " أدرك " (75)، وأصل " ادارك ": تدارك فأدغمت التاء في الدال، و " أدرك " افتعل، ومعنى: أدرك ﴿علمهم﴾: انتهى وتكامل، و ﴿ادارك﴾: تتابع واستحكم، يعني: أن أسباب استحكام علمهم وتكاملهم (76) بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم، ومكنوا منها ومن معرفتها، وهم شاكون جاهلون، وذلك قولهم: ﴿بل هم في شك منها بل هم منها عمون﴾ يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم.

ووجه آخر وهو: أن يكون " أدرك " بمعنى " انتهى " و " فني "، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم، وقد فسره الحسن ب? " اضمحل علمهم " (77).

وتدارك من: تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.

ومعنى الإضراب ثلاث مرات أنه وصفهم أولا بأنهم " لا يشعرون " وقت البعث، ثم بأنهم ﴿لا يعلمون﴾ بأن القيامة كائنة، ثم بأنهم ﴿في شك﴾ يستطيعون إزالته ولا يزيلونه، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ إعمائهم فلذلك عداه ب? " من " دون " عن "، لأن الكفر بالعاقبة هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون.

والعامل في ﴿إذا﴾ ما دل عليه ﴿أئنا لمخرجون﴾ وهو تخرج، لأن بين يدي " عمل " اسم فاعل فيه موانع من العمل، وهي: همزة الاستفهام و " إن " ولام الابتداء، واحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمع الجميع.

والمراد: الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على " إذا " و " إن " جميعا إنكار على إنكار وجحود بعد جحود، والضمير في ﴿إنا﴾ لهم ولآبائهم، لأن كونهم ﴿ترابا﴾ قد تناولهم وآباءهم.

فانظر ﴿كيف كان عقبة المجرمين﴾ أي: الكافرين.

﴿ولا تحزن عليهم﴾ لأنهم لم يتبعوك، والمراد: لم يسلموا ﴿ولا تكن في﴾ حرج صدر من مكرهم وكيدهم، ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك منهم، يقال: ضاق الشئ ضيقا بالفتح والكسر، وقد قرئ بهما جميعا (78).

استعجلوا العذاب الموعود، فقيل لهم: ﴿عسى أن يكون﴾ ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر، فزيدت اللام للتأكيد كما زيدت الباء في ﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ (79)، أو ضمن ﴿ردف﴾ معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، والمعنى: تبعكم ولحقكم، و " عسى " و " لعل " و " سوف " في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده، يعنون بذلك أنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بغلبتهم، وبأن الأمر لا يفوتهم.

والفضل: الإفضال أي: هو مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه.

كننت الشئ وأكننته: سترته، أي: يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله وكيده، وهو معاقبهم على ذلك على حسب استحقاقهم.

التاء في " الغائبة " و " الخافية " بمنزلتها في " العاقبة " و " العافية "، والمعنى: الشئ الذي يغيب ويخفي، وهما اسمان، ويجوز أن يكونا صفتين، والتاء تكون للمبالغة ك? " الراوية " في قولهم: حماد الراوية، كأنه قال: وما من شئ شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأثبته في اللوح.

﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77) إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78) فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهدي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85)﴾ أي: ﴿يقص﴾ عليهم ما اختلفوا فيه من أمر المسيح ومريم وأشياء كثيرة وقع بينهم الاختلاف فيه من الأحكام وغيرها، وكان ذلك من معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله)، إذ كان لا يدرس كتبهم وأخبرهم بما فيها.

﴿يقضى بينهم﴾ أي: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، أو: بين المختلفين في الدين يوم القيامة ﴿بحكمه﴾ أي: بما يحكم به وهو عدله، فسمى المحكوم به حكما، أو بحكمته ﴿وهو العزيز﴾ فلا يرد قضاؤه ﴿العليم﴾ بمن يقضي له وعليه.

أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه ﴿على الحق﴾ وصاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله.

﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ ومن سمع آيات الله وهو حي صحيح الحواس فلا تعيها أذنه، وحاله كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وحاله كحال الصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون.

و ﴿العمى﴾ الذين يضلون الطريق ولا يقدر أحد على أن يجعلهم هداة بصراء إلا الله، وقوله: ﴿إذا ولوا مدبرين﴾ تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا ولى عن الداعي مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته، وقرئ: " ولا يسمع الصم " (80) " وما أنت تهدي العمي " (81).

وهداه عن الضلال كقوله: سقاه عن العيمة (82) أي: أبعده عنها بالسقي، وأبعده عن الضلال بالهدى ﴿إن تسمع﴾ أي: ما تسمع ﴿إلا﴾ من يطلب الحق، ويعلم الله أنه يؤمن بآياته ويصدق بها ﴿فهم مسلمون﴾ مخلصون.

﴿وإذا وقع القول﴾ أي: حصل ما وعده الله من علامات قيام الساعة وظهور أشراطها ﴿أخرجنا لهم دابة من الأرض﴾ تخرج من بين الصفا والمروة، فتخبر المؤمن بأنه مؤمن والكافر بأنه كافر.

وعن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " دابة الأرض طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه، وتسم الكافر بين عينيه، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال: يا مؤمن، ويا كافر " (83).

وروي: " فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يبيض لها وجهه، ويكتب بين عينيه: مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه، ويكتب بين عينيه: كافر " (84).

وعن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام (85).

وعن محمد بن كعب قال: سئل علي (عليه السلام) عن الدابة فقال: " أما والله مالها ذنب، وإن لها للحية " (86).

وفي هذا إشارة إلى أنها من الإنس.

وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: " أنا صاحب العصا والميسم " (87).

وعن ابن عباس وغيره (88): ﴿تكلمهم﴾ من الكلم وهو الجرح، والمراد به الوسم بالعصا والخاتم، ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا على معنى التكثير، يقال: فلان مكلم أي: مجرح، ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أن المراد بالتكليم التجريح، كما فسر ﴿لنحرقنه﴾ بقراءة علي (عليه السلام): " لنحرقنه " (89)، ويستدل بقراءة أبي " تنبئهم " (90)، وبقراءة ابن مسعود: ﴿تكلمهم﴾ بالتشديد " بأن الناس " (91) على أنه من الكلام.

وعن الباقر (عليه السلام): كلم الله من قرأ " تكلمهم "، ولكن ﴿تكلمهم﴾ بالتشديد (92).

وقرئ: " إن " بالكسر (93) على حكاية قول الدابة أو قوله تعالى عند ذلك، وإذا كانت حكاية لقول الدابة فمعنى ﴿بآياتنا﴾: بآيات ربنا، أو: لأنها من خواص خلق الله أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك: بلادنا وجندنا، وإنما هي بلاد مولاه وجنده.

والقراءة بفتح ﴿أن﴾ على حذف الجار.

﴿فهم يوزعون﴾ أي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ﴿ويوم نحشر﴾ منصوب بما دل عليه ﴿فهم يوزعون﴾ لأن ﴿يوم﴾ هاهنا بمنزلة " إذا ".

وقد استدل بعض الإمامية (94) بهذه الآية على صحة الرجعة وقال: إن المذكور فيها: يوم نحشر فيه ﴿من كل﴾ جماعة فوجا، وصفة يوم القيامة أنه يحشر فيه الخلائق بأسرهم كما قال سبحانه: ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾ (95).

وورد عن آل محمد (عليهم السلام): أن الله تعالى يحيي عند قيام المهدي (عليه السلام) قوما من أعدائهم قد بلغوا الغاية في ظلمهم واعتدائهم، وقوما من مخلصي أوليائهم قد ابتلوا بمعاناة كل عناء ومحنة في ولائهم، لينتقم هؤلاء من أولئك، ويتشفوا مما تجرعوه من الغموم بذلك، وينال كل من الفريقين بعض ما استحقه من الثواب والعقاب (96).

وهذا غير مستحيل في العقول فإن أحدا من المسلمين لا يشك في أنه مقدور لله تعالى، وقد نطق القرآن بوقوع أمثاله في الأمم الخالية ك? ﴿- الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت﴾ (97)، والذي ﴿أماته الله مئة عام ثم بعثه﴾ (98) (99).

وروي عنه (عليه السلام): " سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة " (100).

وعلى هذا فيكون المراد بالآيات: الأئمة الهادية (عليهم السلام).

وقوله: ﴿ولم تحيطوا بها علما﴾ الواو للحال، فكأنه قال: أكذبتم بها بادئ الرأي من غير فكر ونظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو للعطف أي: أجحدتموها ومع جحودكم لم تقصدوا معرفتها وتحققها ﴿أماذا كنتم تعملون﴾ من غير الكفر والتكذيب بآيات الله، يعني: لم يكن لكم عمل في الدنيا غير ذلك.

﴿ووقع القول عليهم﴾ أي: غشيهم العذاب بسبب ظلمهم فشغلهم عن الاعتذار والنطق به.

﴿ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين (87) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغفل عما تعملون (93)﴾

﴿مبصرا﴾ معناه: ليبصروا فيه طرق المكاسب.

﴿ففزع﴾ ولم يقل: فيفزع ليعلم أنه كائن لا محالة، والمراد: أن أهل السماوات والأرض يفزعون عند النفخة الأولى ﴿إلا من شاء الله﴾ من الملائكة الذين ثبتهم الله تعالى وهم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل: الشهداء (101)، وقرئ: " وكل أتوه " (102) أي: فاعلوه، وكلاهما محمول على معنى " كل "، والداخر: الصاغر، ومعنى الإتيان: حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يكون المراد: رجوعهم إلى أمرهم وانقيادهم له.

﴿تحسبها جامدة﴾ من جمد في المكان: إذا لم يبرح منه، تجمع الجبال وتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفة ﴿وهي تمر﴾ مرا حثيثا.

وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا يتبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي يصف جيشا: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم * وقوف لحاج والركاب تهملج (103) ﴿صنع الله﴾ مصدر مؤكد، وانتصابه بما دل عليه ما تقدم من قوله: ﴿وهي تمر مر السحاب﴾ وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتى بها على وجه الحكمة والإتقان وهو حسن الاتساق ﴿إنه خبير﴾ بما يفعله العباد، وما يستحقونه عليه فيجازيهم بحسب ذلك، وقرئ: ﴿تفعلون﴾ بالتاء على الخطاب (104).

وقرئ: " من فزع يومئذ " مجرورا بالإضافة (105) و " يومئذ " مفتوحا مع الإضافة (106) لأنه أضيف إلى غير متمكن، ومنصوبا مع تنوين " فزع ".

ومن نون ففي انتصاب " يومئذ " ثلاثة أوجه: أن يكون ظرفا للمصدر، وأن يكون صفة له كأنه قال: من فزع يحدث يومئذ، وأن يتعلق ب? ﴿آمنون﴾ كأنه قال: وهم آمنون يومئذ من فزع شديد لا يكتنهه الوصف، وهو خوف النار.

وعن علي (عليه السلام): " الحسنة حبنا أهل البيت، والسيئة بغضنا " (107).

ويؤيده ما رووه عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " يا علي، لو أن أمتي صاموا حتى صاروا كالأوتار، وصلوا حتى صاروا كالحنايا، ثم أبغضوك، لأكبهم الله على مناخرهم في النار " (108).

﴿هل تجزون﴾ على إضمار القول.

﴿هذه البلدة﴾ يعني: مكة، خصها الله سبحانه بإضافة اسمه إليها، وأشار إليها إشارة تعظيم لها، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص، وصفها: لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ومن التجأ إليها فهو آمن، ومن انتهك حرمتها فهو ظالم، وهو مالك ﴿كل شئ﴾ فيحرم ما يشاء ويحل ما يشاء.

﴿فمن اهتدى﴾ باتباعه إياي فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلي ﴿ومن ضل﴾ ولم يتبعني فلا علي، وما أنا إلا رسول منذر، وليس علي إلا البلاغ المبين.

ثم أمر سبحانه أن يحمد الله على ما آتاه من نعمة النبوة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم سبحانه من الآيات التي تلجئهم إلى المعرفة والإقرار بأنها آيات الله، وذلك حين لا تنفعهم المعرفة، يعني: في الآخرة، وقيل: هي العذاب في الدنيا والقتل يوم بدر فيشاهدونها (109)، وقرئ: ﴿تعملون﴾ بالتاء والياء (110).


1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 73: مكية بلا خلاف، وهي خمس وتسعون آية حجازي، وأربع وتسعون آية بصري وشامي، وثلاث وتسعون آية في عدد الكوفيين. وفي الكشاف: ج 3 ص 346: مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل: أربع وتسعون، نزلت بعد الشعراء. وفي تفسير الآلوسي: ج 19 ص 154 ما لفظه: وتسمى أيضا كما في الدر المنثور: سورة سليمان، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير، وذهب بعضهم إلى مدنية في بعض آياتها، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد: أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص.

2- في نسخة زيادة: " على سبيل التأويل ".

3- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 390 مرسلا.

4- العنكبوت: 38.

5- الفرقان: 18.

6- الظاهر من عبارته أنه قدس سره اعتمد على قراءة الإضافة هنا دون التنوين تبعا للزمخشري.

7- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 349.

8- قاله السدي. راجع تفسير القرطبي: ج 13 ص 158.

9- الأنبياء: 71.

10- في نسخة: " ينشر ".

11- الآية: 31.

12- لم نعثر على قائله، وفيه يصف قوما بالجبن، إذ لم يقدموا مرة على العدو، ولم يلبوا مناديا مستغيثا فيدفعوا عنه. ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 351.

13- البيت منسوب لسعير بن الحارث الضبي، وقيل: لتأبط شرا، وقيل: شمر الغساني، و قيل: للفرزدق يصف نفسه بالجرأة واقتحام المخاوف ضمن قصيدة أنشأها. انظر الكشاف: ج 3 ص 351.

14- في نسخة: " فتهدي ".

15- حكاه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 352.

16- في نسخة: " التبصر ".

17- المؤمنون: 46 و 47.

18- في نسخة: " جليا ".

19- حكاه فرقد السنجي. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 409.

20- حكاه عنه (عليه السلام) الآلوسي في تفسيره: ج 19 ص 171.

21- في نسخة: " ينقلب ".

22- رواه في مجمع البيان: ج 7 - 8 ص 217 عن العياشي.

23- حكاه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 412.

24- قرأه ابن كثير. راجع التبيان: ج 8 ص 86.

25- قرأ عاصم وروح بفتح الكاف، وضمها الباقون. راجع المصدر السابق.

26- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 359.

27- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 359.

28- حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 203.

29- في نسخة زيادة: " علما ".

30- وبغير التنوين على منع الصرف قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التبيان: ج 8 ص 86.

31- وهي قراءة ابن كثير برواية قواص عنه. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 413.

32- الآية: 15.

33- حكاه عنه الآلوسي في تفسيره: ج 19 ص 190.

34- وهي قراءة أبي جعفر والكسائي ورويس. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 585.

35- وتمام البيت: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القطر انظر ديوان ذي الرمة: ص 202.

36- ليس في نسخة: من السماء.

37- وهي قراءة أبي وعيسى. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: 110.

38- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 362.

39- المصدر السابق.

40- الظاهر أن المصنف يعتمد على قراءة الياء فيهما هنا كما هو واضح.

41- سبأ: 31.

42- قاله ابن زيد ووهب بن منبه. راجع تفسير الطبري: ج 9 ص 512.

43- أخرجه العجلوني في كشف الخفاء: ج 2 ص 160.

44- في نسخة: " الأمور ".

45- غب الأمر ومغبته: عاقبته وآخره. (لسان العرب: مادة غيب).

46- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 365.

47- في نسخة: " أصانعه ".

48- في نسخة: " منه ".

49- رواه الطبري في تفسيره: ج 9 ص 520 عن وهب بن منبه.

50- قاله الكلبي وعائشة. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 420.

51- قاله مجاهد ومقاتل. راجع تفسير الطبري: ج 9 ص 523.

52- وهو قول ابن بحر كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 213.

53- قاله ابن عباس والنخعي. راجع البحر المحيط: ج 6 ص 86.

54- وهو قول ابن لهيعة. راجع الكشاف: ج 3 ص 367 و 368.

55- وهو قول ابن لهيعة. راجع الكشاف: ج 3 ص 367 و 368.

56- البيت لأعرابية ترد خاطبا لها يسألها عن أحوالها، وقيل: هو لشاعر حماسي. انظر شرح شواهد الكشاف للأفندي: 78.

57- رواه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 420 عن ابن عباس.

58- انظر تفسير الرازي: ج 24 ص 200.

59- قاله مجاهد والجبائي. راجع التبيان: ج 8 ص 98.

60- قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 3 ص 213.

61- قاله محمد بن كعب القرظي. راجع البحر المحيط: ج 7 ص 79.

62- يس: 19.

63- الإسراء: 13.

64- وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف. راجع التبيان: ج 8 ص 101.

65- قرأ عاصم برواية أبي بكر " مهلك " وفي رواية حفص " مهلك "، والباقون " مهلك ". راجع المصدر السابق.

66- الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا هي بكسر الألف كما لا يخفي.

67- في نسخة: " شركهم ".

68- حكاه عنه الآلوسي في تفسيره: ج 19 ص 215.

69- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 374.

70- حكاه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 424.

71- رواه القمي في تفسيره: ج 2 ص 129.

72- انظر تهذيب الأحكام للطوسي: ج 2 ص 297 ح 51.

73- وبالياء قراءة أبي عمرو وابن عامر برواية هشام وابن ذكوان وروح والحسن والأعمش، وبالتاء الباقين. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 484، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 7 ص 90.

74- لجران العود واسمه عامر بن الحارث بن كلفة وقيل: كلدة، والبيت من قصيدة يذم فيهما امرأتيه ويشكو منهما. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 10 ص 15 وما بعده.

75- وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 485.

76- في نسخة: " تكامله ".

77- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 379.

78- قرأ ابن كثير والمسيبي وإسماعيل كلاهما عن نافع بكسر الضاد، وقرأ الباقون بفتحها. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 485.

79- البقرة: 195.

80- قرأه ابن كثير وابن محيص وحميد وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 486، وتفسير القرطبي: ج 13 ص 232.

81- قرأه حمزة. راجع كتاب السبعة السابق.

82- عام الرجل إلى اللبن يعام ويعيم عيما وعيمة. (لسان العرب: مادة عيم).

83- رواه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 429.

84- رواه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 226 عن ابن الزبير.

85- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 428.

86- رواه الطوسي في التبيان: ج 8 ص 119، والماوردي في تفسيره: ج 4 ص 226.

87- وهو ما رواه الكليني في الكافي: ج 1 ص 198 باب أن الأئمة هم أركان الأرض، والصدوق في العلل: ص 164 ب 130 ح 3.

.

88- كالحسن وسعيد بن جبير وأبي زرعة وأبي رجاء العطاردي وعاصم الجحدري. راجع التبيان: ج 8 ص 120، وتفسير القرطبي: ج 13 ص 238.

89- حكاها عنه (عليه السلام) ابن خالويه في الشواذ: ص 92، والآية من سورة طه: 97.

90- انظر معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 300.

91- انظر معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 300.

92- تفسير القمي علي بن إبراهيم: ج 2 ص 130 وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).

93- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 487.

94- كالشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 120.

95- روى القمي باسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث إلى أن قال: فقال رجل له: إن العامة تزعم أن قوله: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) * عنى يوم القيامة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أفيحشر الله من كل أمة فوجا ويدع الباقين ؟! لا، ولكنه في الرجعة، وأما آية القيامة فهي: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *. راجع تفسير القمي: ج 2 ص 131.

96- انظر روضة الكافي: ص 206 ح 250.

97- البقرة: 243.

98- البقرة: 259.

99- أنظر الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق: ب 18 ص 39 - 43.

100- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 203 ح 609.

101- قاله أبو هريرة كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 230.

102- وهي قراءة الجمهور إلا حمزة وحفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 487.

103- الأرعن: الجبل العالي، والهملجة: السير السريع، يقول: إن جيشنا من الكثرة تظنهم واقفين لحاجة والحال أن ركابه تسرع السير. انظر شرح شواهد الكشاف للأفندي: 99.

104- الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بالياء.

105- قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 487.

106- قرأه ابن جماز وقالون وابن أبي أويس والمسيبي وورش كلهم عن نافع. راجع المصدر السابق.

107- أخرجه الكليني في الكافي: ج 1 ص 185 ح 14، والطوسي في الأمالي ج 2 ص 107.

108- العلل المتناهية لابن الجوزي: ج 1 ص 257.

109- وهو قول مقاتل. راجع مجمع البيان: ج 7 ص 237.

110- وبالياء قرأه ابن كثير وأبو عمرو وهشام. راجع الكشف عن وجوه القراءات: ج 2 ص 169.