4 - مقارنة وتحديد

وخلاصة ما تقدم من جولتي مع القدامى والمحدثين من النقاد، أكاد أخرج بنتيجة تمليها المقارنة بين النصوص هي:

أ - إن النقاد القدامى لم ينهضوا بمفهوم الصورة إلى المجال الاصطلاحي الدقيق، ولم يخرجوا بها عن مدلولها اللغوي، ولم يتبلور عندهم بعدها النقدي الأصيل باستثناء عبد القاهر الذي ابتدع لنا في استعمال الصورة دلالة اصطلاحية جديدة، فكان ما أعطاه - وحده - جديراً بتحديد الاصطلاح في خطوطه الاولى.ولا يعطينا ذلك استعمال الجاحظ لها، وقدامة، والعسكري، وابن الأثير، لأمرين مهمين هما:

الأول: أن كل مصطلح مهما كان عريقاً في القدم فإنه لا يأخذ من قدمه هذا صيغة نهائية، ولا بد له من الصقل والتطوير والتهذيب، وذلك لتقلب الرواد عليه، وتمحيصهم له، وتفريعهم عن أصوله حتى يصل إلى حد التكامل.والصورة إحدى هذه المصطلحات في تكوينها البدائي وقد كان صقلها وبلورتها مما انفرد به عبد القاهر دون سواه، وقد كان بهذا الصقل والتهذيب موضع تأثير كبير في نظريات النقاد المحدثين من العرب والغربيين والمستشرقين (1).

الثاني: إن القدامى في معركتهم البلاغية لم يفرغوا من التفريق أو التوفيق بين اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون، أو الصورة والمادة، للوصول إلى مقياس فني يعتمد عليه في التمييز بين أساليب الكلام الجمالية، وفي الرجوع بذلك المقياس إلى الصيغة والتركيب، أو إلى المادة والمضمون، أو لهما معاً، مما جعل عبد القاهر يرفض التطرف في الرأيين وينفرد بإدراك العلاقة القائمة بين الشكل والمحتوى، فيعود بذلك إلى ما أسماه بالنظم تارة، وبالتأليف تارة أخرى (2)، وهو لا يريد بهذا إلا الصورة الفنية في كثير من حدود صيغتها الاصطلاحية وليستدل من بعد هذا على أن الصورة غير منفردة دون فن، وإنما تشمل فنون القول بعامة، أي إنها لا تنطبق على الشعر فحسب بل تتعداه إلى العمل الأدبي بشقيه، إذا توافقت أصوله، وحسن تأليفه وتناسب نظمه، وبذلك تستوعب الصورة صنوف البيان، بدليل إخضاع مفهومها عنده لآيات القرآن الكريم، وإثبات إعجازه، كما هو واضح لمن استقرأ دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة.فعبد القاهر الجرجاني أول منظر لمصطلح الصورة، وأول قائل بها.

وعليه فالصورة الفنية جزء لا يتجزأ من حضارة الأمة العربية في القرنين الرابع والخامس قبل الهجرة، قبل أن تستحدث دلالتها المعاصرة عند الأوروبيين بعدة قرون.

ب - إن مصطلح الصورة عند النقاد المحدثين لا سيما الأوروبيين ممن عرضنا لآرائهم وتعاريفهم قد بدا متأرجحاً بين مداليل لا التقاء بين أكثرها وقد يتخلل تعبيرها الغموض وعدم التحديد، وألفاظها وإن كانت لا تخلو من طرافة ونعومة إلا أنها عاجزة عن تحديد المصطلح تحديداً علمياً، فالضلال، والألوان، والحركة، والحس، والرسم، والمشهد، والعشوى، الكائن، والحي، والإيحاء، والشحن، والعاطفة، والفكرة، وفوق المنطق..كل أولئك من الكلمات التي حشرت لتفسير معنى الصورة، ولا يتم معها الضبط العلمي، ولا يعلم المراد منها على وجه التحقيق، إلا إنها تحوم حول المصطلح ولا تفصح عنه.

ولعل أقرب التعاريف وجهاً - فيما يبدو لي - وهو تعريف الأستاذ أحمد الشايب، وأن استنبطه عن الشكل والمضمون، وبحث عن العنصر الثالث المفقود واعتبره الصورة.

ولا شك أن تعريف الدكتور داود سلوم للصورة امتداد طبيعي لنظرية الامام عبد القاهر الجرجاني، وعصري يجمع بين الدلالتين اللفظة والمعنوية في مدى تلاؤمها بتصور ذهني.

ولعل أحدث مقياس لدلالتها ما أكده الدكتور جابر أحمد عصفور باعتبارها طريقة من طرق التعبير الذي تحدث في المعنى ميزة، وتكسبه طابعاً تأثيرياً في منهج أسلوبه عند تقديم العمل الأدبي، إلا أنه بهذا يلصقها بالمعنى دون النظر لأهمية الشكل، ولعله بذلك يفصل بين اللفظ والمعنى، أو اللغة والفكرة، قصد لذلك أو لم يقصد.

فالصورة - كما تبدو لي من خلال هذه المقارنة - عبارة عن العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى في نص أدبي، والحصيلة عن اقترانهما، فهي غيرهما منفصلين، وهي امتداد لهما مجتمعين، فليست هي اللفظ بمفرده شكلاً فارغاً رناناً، ولا المعنى بذاته مضموناً ذهنياً مجرداً، ولكنها الخصائص المشتركة بينهما، والتي تتقوم بها شخصية النص الأدبي، وتتميز عن غيرها من النصوص بما تحمله من أحاسيس وانفعالات قد لا يوحي ظاهر اللفظ، ولا يحققها مجرد المعنى، ولكنها مزيج بين دلائل اللفظ، وإيحائية المعنى في تحقيق نموذج أدبي، أو تمييز نص عن نص، بما تضفيه صياغة الشكل في علاقاته الاستعارية، وما تمليه خصائص المعنى في تأثيره وأحاسيسه.

أو هي - بإيجاز - مجموعة العلاقات اللغوية والبيانية والإيحائية القائمة بين اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون.

وعلى هذا فالصورة أداة فنية لاستيعاب أبعاد الشكل والمضمون بما لهما من مميزات.وما بينهما من وشائج تجعل الفصل بينهما مستحيلاً.

فالصورة - إذن - وحدة لا تنفصم، ذات طرفين: إطار ومادة، ولا يتقوم الجهد الأدبي إلا بلحاظ طرفيه، ولا يتم تفسيره إلا بمواجهتهما معاً، وإلا فالنتاج الأدبي عمل جاف لا ينبض بالحس، ولا يتسم بالحياة، والجفاف لا يكون أثراً صالحاً في مقياس فني.


1- ظ: في تفصيل ذلك: المؤلف، الصورة الأدبية في الشعر الأموي: 28 ـ 31.

2- الجرجاني: أسرار البلاغة: 7.