3 - الصورة عند النقاد المحدثين

على الرغم من الاتجاه السائد عند النقاد المعاصرين من العرب والغربيين والمستشرقين في محاولة دراسة الصورة الفنية لأي عمل أدبي، فإن حقيقة الصورة ما زالت موضع اختلاف لديهم في مجالات التحديد، ويذهبون بذلك مذاهب هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح.

لقد عرف (فان van) الصورة بقوله: (الصورة كلام مشحون شحناً قوياً، يتألف عادة من عناصر محسوسة، خطوط، ألوان، حركة، ظلال، تحمل في تضاعيفها فكرة أو عاطفة أي إنها توحي بأكثر من المعنى الظاهر، وأكثر من انعكاس الواقع الخارجي، وتؤلف في مجموعها كلاً منسجماً) (1).

وهذا يعني أنها مجموعة العناصر المحسوسة التي ينطوي عليها الكلام، وتوحي بأكثر مما تحمله من تضاعيف المعنى الظاهر، وإنها تنحصر في جانبين:

1 - الجانب الحسي المرتكز على الفكرة والعاطفة والمشاهدة.

2 - الجانب الإيحائي الذي يضفي على الشكل أكثر من تفسيره الظاهري.

وعرف (بوند) الصورة بأنها (ما ينقل عقدة فكرية أو عاطفية في لحظة زمنية) (2).فهي عنده الوسيلة التي تعبر في طريقة عرضها من مركب فكري، أو إحساس عاطفي مرتبطين بلحظة زمنية معينة.

ويعرف البعض الصورة بأنها (مشهد أو رسم قوامه الكلمات) (3).فهي عنده لوحة فنية تتضافر على إخراجها الألفاظ، سواء بمدلولها الحسي، أم بمدلولها الإيحائي متناسياً أن كثيراً من المشاهد والرسوم تبدو مفتقرة إلى الصورة الفنية وإن تقومت بالكلمات.

ويعبر عنها البعض الآخر بأنها (حركة متصلة في قلب العمل الأدبي تتبصر بها في دوائره ومحاوره ومنعطفاته، وننتقل بها داخل العمل الأدبي في مستوى تعبيري إلى مستوى تعبيري آخر، حتى يتكامل لدينا البناء الأدبي كائناً عضوياً حياً (4).

ولا يخلو هذا التعريف من غرابة وطرافة وإيهام، لأنه مجموعة من الألفاظ المتشابهة والمعاني المترادفة التي لا نصل معها إلى تحديد، ولا تكشف لنا عن جديد، إلا في إرادة التنقل من تعبير حقيقي - فيما يبدو - الى تعبير استعاري.

ويعتبر الأستاذ أحمد الشايب (الوسائل التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرائه وسامعيه (5) هي الصورة الفنية) ثم يذكر أن لها معنيين:

الأول: ما يقابل المادة الأدبية، ويظهر في الخيال والعبارة.

الثاني: ما يقابل الأسلوب، ويتحقق بالوحدة، وهي تقوم على الكمال والتأليف والتناسب (6).

ومقياس الصورة عنده (هو قدرتها على نقل الفكرة والعاطفة بأمانة ودقة - فالصورة هي العبارة الخارجية للحالة الداخلية - وهذا هو مقياسها الاصيل، وكذا ما نصفها به من روعة وقوة إنما مرجعه هذا التناسب بينها وبين ما تصور من عقل الكاتب ومزاجه تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد، فيه روح الأديب وقلبه، بحيث نقرؤه، كأنا نحادثه، ونسمعه كأنا نعامله).

وهذا القياس ذو أهمية جديرة بالتأمل، فالصورة من جانب قوة خلاقة قادرة على نقل الفكرة، وإبراز العاطفة، وهي الشكل الخارجي المعبر عن الحالة النفسية للمنشئ وعن تفاعله الداخلي، وهي الضوء الكاشف عن كفاءة المبدع الفنية، وروحه الشفافة الرقيقة - نتيجة لإيجاده الملاءمة بين نقل الفكرة وتعبيرها النفسي أسلوبياً - وبها يتميز عقل المتكلم ويحكم عليها بالدقة والإبداع والتطوير دون وساطة أخرى، وإنما نقرؤه تجسيداً، ونسمعه تشخيصاً وإدراكاً من خلال هذا التناسب والارتباط الذي حققه في هذا العمل الأدبي أو ذاك، وهو الصورة.فالصورة عنده إيجاد للملاءمة والتناسب بين الفكر والأسلوب، أو اللغة والأحاسيس.

ولعل هذا التحديد للصورة في تعريفها ومعناها ورؤية هويتها ومقياسها من أفضل التعاريف الفنية نظراً لما يحمله في تضاعيفه من الوضوح والمرونة والدقة العلمية، ولأنه جامع مانع كما يقول المناطقة.

ويقول الدكتور داود سلوم (إن امتزاج المعنى والألفاظ والخيال كلها هو الذي يسمى بالصورة الأدبية، ومن ترابطها وتلاؤمها والنظر إليها مرة واحدة عند نقد النص يقوم التقدير الأدبي السليم) (7).

فمقياس الصورة عند الدكتور داود سلوم يقوم على أساس تجسيد الفكرة العامة للعلاقات الجزئية في النص الأدبي لتشكل كلاً فنياً واحداً.

وتقول روز غريب (الصورة في أبسط وصف لها تعبير عن حالة أو حدث بأجزائهما أو مظاهرهما المحسوسة.هي لوحة مؤلفة من كلمات، أو مقطوعة وصفية في الظاهر لكنها في التعبير الشعري توحي بأكثر من المظاهر، وقيمتها ترتكز على طاقتها الإيحائية، فهي ذات جمال تستمده من اجتماع الخطوط والألوان والحركة ونحو ذلك من عناصر حسية، وهي ذات قوة إيحائية تفوق قوة الإيقاع لأنها توحي بالفكرة كما توحي بالجو والعاطفة) (8).

وهذا التعريف - في كثير من ابعاده - تعريب تقليدي لتعريف (وليم فان) السابق، وشرح له، وكشف لدوافعه، وإن أعوزته جودة التركيب وقوة الصياغة، ولكنه يشير من طرف خفي إلى البعد الرمزي في الصورة بكونها تعبيراً يوحي بأكثر من الظاهر، والكاتبة هنا تلاحظ في الجانب الإيحائي قوة تفوق الإيقاع والنغم وصنوف المحسنات البيانية، ولكنها قد تعارض هذا الرأي الذي نقلته في خطوطه العامة دون إدراك لهذه المعارضة، فهي تعتبر الصورة تتخطى حدود الاستعارة والمجاز والتشبيه، وتتعدى الخيال والعاطفة فقد تنشأ عن أصل واقعي بعيد عن الخيال من جهة، وضروب البيان من جهة أخرى، وهما الجانب الإيحائي في الصورة والذي أكدته في الرأي نفسه، ثم تعود للتعبير عنه بقولها: (الصورة الشعرية لا تنحصر في التشابيه والاستعارات وسواها من ضروب المجاز، ولكنها كل صورة توحي بأكثر من معناها الظاهر، ولو جاءت منقولة عن الواقع) (9) متناسية أن الإيحاء بأكثر من المعنى الظاهر لا يتم إلا باللحن، أو الرمز، أو التعريض، أو الكناية، أو التشبيه أو الاستعارة، وكلها من ضروب المجاز بمعناه العام.

ويرى الدكتور مصطفى ناصف أن الصورة تستعمل عادة: (للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي، وتطلق أحياناً، مرادفة للاستعمال الاستعاري) (10).

فالصورة عنده ما استدل بها على التعبير الشاخص الذي يوصلنا إلى إدراك حقيقة الشيء من جهة، وعلى دلالة الكلمة الاستعارية من جهة أخرى، فالشق الأول من كلامه يعني بإيحاء الصورة، والثاني يعني بشكلها الخارجي في الدلالات المجازية.

ثم يأتي بعد هذا فيحدد الصورة بأنها:

(منهج - فوق المنطق - لبيان حقيقة الأشياء) (11) وهذا التحديد لمفهوم الصورة يكاد ينتقل بنا من المجال الأدبي إلى التدقيق الفلسفي، فلا يعلم ماذا يراد منه بالضبط - هل يراد بالمنهج طريقة العرض والأسلوب، أو مجموعة العلاقات الاستعارية في النص؟ وما هي طبيعة هذه الحقائق التي تبينها الصورة؟ أحقيقة اللفظ، أم المعنى، أم الحس، أم العلاقة القائمة بين الجميع (12).

ويرى الدكتور جابر أحمد عصفور أن الصورة (طريقة خاصة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة، تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير.ولكن أياً كانت هذه الخصوصية أو ذاك التأثير، فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته.إنها لا تغير إلا من طريقة عرضه، وكيفية تقديمه) (13).

فالصورة عنده عرض أسلوبي يحافظ على سلامة النص من التشويه، ويقدم المعنى بتعبير رتيب، وهي بعد طريقة لاستحداث خصوصية التأثير في ذهن المتلقي بمختلف وجوه الدلالة التي يستقيها من النص في منهج تقديمه، وكيفية تلقيه، وما يحدثه ذلك عنده من متعة ذهنية، أو تصور تخييلي نتيجة لهذا الغرض السليم.


1- روز غريب، تمهيد في النقد الحديث: 192 وما بعدها.

2- إحسان عباس، فن الشعر: 90.

3- أحمد نصيف الجابي، في الرؤية الشعرية المعاصرة: 119.

4- محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، في الثقافة المصرية: 58.

5- أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي: 242.

6- المصدر نفسه: 259.

7- داود سلوم، النقد الأدبي: 1|81.

8- روز غريب، تمهيد في النقد الحديث: 190.

9- المصدر نفسه: 203.

10- مصطفى ناصف، الصورة الأدبية: 3.

11- المصدر نفسه: 8.

12- المؤلف، الصورة الأدبية في الشعر الأموي: 18.

13- جابر أحمد عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: 392.