سورة الكوثر
مختلف فيها (1)، ثلاث آيات.
في حديث أبي: " من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه ونوافله سقاه الله يوم القيامة من الكوثر، وكان محدثه عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أصل طوبى " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إنآ أعطينك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر (3)﴾
(الكوثر) فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قرأها ثم قال: " أتدرون ما الكوثر؟إنه نهر وعدنيه ربي، فيه خير كثير، هو حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته من فضة عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم فأقول: يا رب إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
أورده مسلم في الصحيح (4).
وعن ابن عباس: أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: فإن ناسا يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير (5).
وقيل: هو كثرة النسل والذرية (6)، وقد ظهر ذلك في نسله من ولد فاطمة (عليها السلام)، إذ لا ينحصر عددهم، ويتصل - بحمد الله - إلى آخر الدهر مددهم.
وهذا يطابق ما ورد في سبب نزول السورة: أن العاص بن وائل السهمي سماه الأبتر لما توفي ابنه عبد الله (7).
وقالت قريش: إن محمدا صنبور (5) (8).
فيكون تنفيسا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وجده في نفسه الكبيرة من جهة مقالهم، وهدما لمحالهم.
وقيل: هو الشفاعة (9).
واللفظ محتمل للجميع، فقد أعطاه سبحانه ما لا غاية لكثرته من خير الدارين.
وأما ما ذكره جار الله (10): أن الكوثر أولاده إلى يوم القيامة من أمته فليس بالوجه، لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسن والحسين (عليهما السلام): " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا " (11).
وقال للحسن (عليه السلام): " إن ابني هذا سيد " (12).
وفي التنزيل: (ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم) (13)، فكيف يحمل الكوثر على أولاد أمته الذين أبى الله أن يكون رسوله أبا أحد منهم، ولا يحمل على أولاد ابنيه من ابنته الذين طبقوا البر والبحر وملاءوا السهل والجبل بكثرتهم؟والنحر: نحر البدن، أي: (فصل) صلاة الفجر بجمع (وانحر) البدن بمنى، وقيل: صلاة الفرض (لربك) واستقبل القبلة بنحرك (14)، من قول العرب: منازلنا تتناحر، أي: تتقابل.
وأما ما رووه (15) عن علي (عليه السلام): معناه: " ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر " فمما لم يصح عنه، لأن عترته (عليه السلام) رووا عنه خلاف ذلك، وهو أن معناه: ارفع يديك إلى النحر في الصلاة (16).
(إن شانئك) إن من أبغضك من قومك (هو الأبتر) لا أنت، والأبتر: الذي لا عقب له.
فانظر في نظم هذه السورة الأنيق وترتيبه الرشيق مع قصرها ووجازتها، وتبصر كيف ضمنها الله النكت البديعة: حيث بنى الفعل في أولها على المبتدأ ليدل على الخصوصية، وجمع ضمير المتكلم ليؤذن بكبريائه وعظمته، وصدر الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم، وأتى بالكوثر المحذوف الموصوف ليكون أدل على الشياع والتناول على طريق الاتساع، وعقب ذلك بفاء التعقيب ليكون القيام بالشكر الأوفر مسببا عن الإنعام بالعطاء الأكثر.
وقوله: (لربك) تعريض بدين من تعرض له بالقول المؤذي من ابن وائل وأشباهه ممن كان في عبادته ونحره لغير الله.
وأشار بهاتين العبارتين إلى نوعي العبادات: البدنية التي الصلاة إمامها، والمالية التي نحر البدن سنامها.
وحذف اللام الأخرى (17) إذ دلت عليه الأولى، ولمراعاة حق التسجيع الذي هو من جملة نظمه البديع وأتى بكاف الخطاب على طريقة الالتفات إظهارا لعلو شأنه، وليعلم بذلك أن من حق العبادة أن يقصد بها وجه الله خالصا، ثم قال: (إن شانئك)، فعلل ما أمره به من الإقبال على شأنه في العبادة بذلك على سبيل الاستئناف، الذي هو جنس من التعليل رائع.
وإنما ذكره بصفته لا باسمه ليتناول كل من أتى بمثل حاله، وعرف الخبر ليتم له البتر، وأقحم الفصل (18) لبيان أنه المعين لهذا النقص والعيب.
وذلك كله مع علو مطلعها، وتمام مقطعها، وكونها مشحونة بالنكت الجليلة، مكتنزة بالمحاسن غير القليلة، مما يدل على أنه كلام رب العالمين الباهر لكلام المتكلمين، فسبحان من لو لم ينزل إلا هذه السورة الموجزة لكفى بها آية معجزة، ولو هم الثقلان أن يأتوا بمثلها لشاب الغراب وساب كالماء السراب قبل أن يأتوا به.
وفيها أيضا دلالة على أنها معجزة وآية بينة من وجه آخر، وهو أنه إخبار بالغيب: من حيث إنه أخبر عما جرى على ألسنة أعدائه فكان كما أخبر، ووافق الخبر (19) الخبر أيضا في إعطائه الكوثر، إذ علت كلمته، وانتشرت في العالم ذريته، وانبتر أمر شانئه الأبتر، وانقطع ذنبه وعقبه كما ذكر، وبالله التوفيق.
1- أورده الواحدي في أسباب النزول: ص 404 ح 934 - 936 عن ابن عباس ويزيد بن رومان وعطاء.
2- رجل صنبور: فرد ضعيف ذليل، لا أهل له ولا عقب ولا ناصر. (لسان العرب: مادة صنبر).
3- أورده البغوي في تفسيره: ج 4 ص 534 عن عكرمة عن ابن عباس.
4- حكاه الرازي في تفسيره: ج 32 ص 127.
5- وهو الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 807.
6- رواه الصدوق في علل الشرائع: ص 211 ح 2، والخزار القمي في كفاية الأثر: ص 36، وتوفيق أبو علم في أهل البيت: ص 195 عنه إحقاق الحق: ج 19 ص 217.
7- رواه أحمد بن حنبل في المسند: ج 5 ص 44، وأبو نعيم في الحلية: ج 2 ص 35، والخطيب في تاريخ بغداد: ج 3 ص 215، والحمويني في فرائد السمطين: ج 2 ص 115 ح 418، والعاملي في الفصول المهمة: ص 152، والحاكم في المستدرك: ج 3 ص 169.
8- الأحزاب: 40.
9- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 534.
10- رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 721 من طرق عنه (عليه السلام).
11- رواه الشيخ في التهذيب: ج 2 ص 66 ح 537 باسناده عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام).
12- أي لم يقل: " وانحر لربك ".
13- يعني به قوله: (هو).
14- في بعض النسخ: " المخبر ".
15- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 419: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: مدنية. وهي ست آيات بلا خلاف. وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 357: مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. وفي الكشاف: ج 4 ص 808: مكية، وهي ست آيات، نزلت بعد الماعون. ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق.
16- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 809.
17- ثواب الأعمال للصدوق: ص 155، وفيه: " وما ولدا "، وزاد في آخره: " وبعثه شهيدا ".
18- أنظر أسباب النزول للواحدي: ص 405 ح 940.
19- في هامش النسخة المطبوعة بالحجر كلام للمحقق: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعبدا بشريعة نفسه قبل المبعث، لأنه كان نبيا من أول الأمر ثم صار مبعوثا للدعوة وتبليغ الرسالة ".