2 - الصورة في اصطلاح النقاد القدامى

ورد ذكر الصورة وبعض مشتقاتها على ألسنة بعض النقاد القدامى(1)، وأقدم من وقفنا على قول له في هذا الشأن هو أبو عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) الذي استعمل مادة الصورة في مجال الأدب بهيئة أخرى فقال - (هو يتحدث عن الشعر) - بأنه: ضرب من النسج، وجنس من التصوير (2).وكأنه أراد بالتصوير هنا العملية الذهنية التي تصنع الشعر.

إلا أن قدامة بن جعفر (ت 337 هـ) قد استعملها نصاً، واعتبرها الهيكل والشكل في مقابل المادة والمضمون، فقال - متحدثاً عن الشعر - (معاني بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور) (3).

فهو ينأى بها عن فهم الجاحظ لها، فالجاحظ يذهب - في حدود فهمنا لكلامه - إلى أنها العملية الذهنية التي تهيئ النص الشعري، بينما يرى قدامة فيها الإطار الخارجي العام لشكل هذا الشعر.

وذكر أبو هلال العسكري (ت 395 هـ تقريباً) الصورة في أقسام التشبيه فجعل من أقسامه: تشبيه الشيء صورة، وتشبيهه به لوناً وصورة اراد بهما المثال والهيكل.

وجاء عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) فأعطى للصورة في المجالات النقدية حلولاً خاصة شرحها بقوله: واعلم أن قولنا: الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فما رأينا البينونة بين أحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان بين إنسان من إنسان، وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم، سواراً من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: المعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك.

وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ:

وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير (4).

واطلق ابن الأثير (ت 637 هـ) كلمة الصورة على خصوص الأمر المحسوس، وقابل بينهما وبين المعنى، فقال - وهو يعدد أقسام التشبيه الأربعة: (أما تشبيه معنى بمعنى..وأما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49)) (5)، وأما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) (6) وهذا القسم أبلغ الأقسام الاربعة، لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة، وأما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام:

وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا * فتك الصبابة بالمحب المغرم

فشبه فتكة المال بالعدا وذلك صورة مرئية، بفتك الصبابة وهو فتك معنوي، وهذا القسم الطف الأقسام الأربعة، لأنه نقل صورة إلى غير صورة (7).

وكان ابن الأثير يعتبر التشبيه التمثيلي في تجسيده المعنويات بالحسيات وتصوير الماديات بالذهنيات - طرداً وعكساً - هو الصورة المتكونة في العمل الأدبي.

وقد اعتبر التهانوي (من علماء القرن الثاني عشر الهجري) الصورة ذات طبيعتين خارجية وذهنية فعد الصورة (ما يتميز به الشيء مطلقاً، سواء كان في الخارج ويسمى صورة خارجية أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية) (8).

ثم فرق بينهما فأعطى الأهمية للصورة الذهنية، واعتبر الصورة الخارجية من الأعيان، فقال: الصورة: ما به يتميز الشيء في الذهن، فإن الأشياء في الخارج أعيان، وفي الذهن صور (9).

ثم حذا حذو عبد القاهر، واستنار برايه باحثاً عن الفروق والمميزات في حصول صورة الشيء في الذهن لا في تواجدها في الخارج فقال: صورة الشيء ما يؤخذ منه عند جذب الشخصيات، أي الخارجية، وأما الذهنية فلا بد منها، لأن كل ما هو حاصل في العقل فلا بدّ له من تشخيص عقلي ضرورة أنه متمايز عن سائر المعلومات (10).

هذه أهم النصوص التي لا حظناها عند النقاد والبلاغين القدامى في حديثهم عن الصورة، ولا بد لنا من الوقوف قليلاً عند استعمالهم هذا، لرصد مفهوم الصورة، وبث دلالتها لديهم.

أما قدامة، فله فضل السبق - وتبعه أبو هلال - باستعمال الكلمة نصاً دون الجاحظ الذي استعمل المادة في هيئة أخرى، وهي التصوير فقد اعتبراها أداة للتعبير عن الإطار الخارجي لمثال الشيء وهيئته وصفته، وقد امتد هذا الاستعمال إلى عصر عبد القادر الذي يقول: تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل.أو جمع الصورة واللون (11). يريد بذلك الهيئة والصفة مقابل المادة والجوهر.

وأما ابن الأثير فقد تأثر نسبياً بقدامة، وجعل الصورة قسيماً للمعنى، أو في مقابلة أي اعتبرها الشكل، واعتبر المعنى مادة لهذا الشكل، وقوم الصورة فرأى تشبيه المعنى بالصورة ابلغ أقسام التشبيه الأربعة، لتصويره المعنى الوهمي المجرد بالصور المشاهدة عياناً ورأى تشبيه الصورة بالمعنى ألطف الأقسام لأنه تصرف حي ينقل الصورة المحسوسة إلى الصورة المعنوية المتخيلة.

ويبدو أن الصورة في حدود ما عرضوه لا تتعدى ما ذكر لها في مداليل لغوية، وإن توسع فيه إلى ما يشمل الصورة المتخيلة في أقسام التشبيه، وإنما ارادوا بذلك الشكل كما أراد ذلك اللغويون، فهذا ابن سيده (ت 458 هـ) يقول: (الصورة في الشكل) (12) وهو يريد بالشكل الهيئة الخارجية التي يتمثل فيها الشيء.وقد تطلق عند اللغويين على الحقيقة والهيئة معاً، قال ابن الأثير: الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، يقال صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته، وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته (13).

ولعل عبد القادر الجرجاني هو أول من أعطى للصورة دلالة اصطلاحية وهي تعني لديه الفروق المميزة بين معنى ومعنى، وشبهها بالفروق التي تميز هيكل إنسان ما عن إنسان، وخاتم عن خاتم، وسوار عن سوار، ولكن هذه الفروق بوقت انطباعها على هيئة الشيء فإنها يستدل بها على حقيقته.

وقد وجد عبد القادر في استعماله لهذا الاصطلاح غرابة نظراً نظراً لجدته في مجاله الخاص به، وخشي أن ينكر عليه النقاد ذلك فتستر بالجاحظ كلمة التصوير لم تكن واضحة تماماً، إذ التصوير عند الجاحظ - كما يبدو من سياق تعبيره - لا يتعدى حدود الجهد العقلي أو العملي الذهني في صياغة الشعر، وهو أجنبي عن مصطلح عبد القاهر الذي استعمله مبتكراً له ومبتدعاً لمدلوله.فالجرجاني بهذا قد أعطى للصورة رؤية جديدة، وما ذكره دقيق جداً، فالصورة عنده ليست هي نفس الشيء، وإنما هي مميزاته المفرقة له عن غيره، وهذه المميزات قد تكون في الشكل وقد تكون في المضمون، لأن الصورة مستوعبة لهما، والنظرة لأحدهما لا بد أن تنعكس على الآخر.

لهذا فإن ما أبداه عبد القاهر، يصلح أن يكون نواة لما استقر عليه المصطلح النقدي الأصيل للصورة لدى المحدثين.وليس هنا مجال للتفصيل في الاستدلال على صحة هذا الرأي، لأننا سبق وأن بحثناه في خطوطه العريضة (14)، إلا أننا سنلمح له في المقارنة كما سيأتي.

وأما ما أبداه التهانوي، وهو من المتأخرين عن عصر عبد القاهر كثيراً، فقد ترجم رأي عبد القاهر في استجلاء الفروق والمميزات فيما يحصل في الذهن من معلومات، هذا لو أراد الصورة في مصطلحها الفني، أو لو حملنا كلامه على الصورة في اصطلاح الفلاسفة - وهي تعني الهيولي في مقابل المادة عند القوم - فحديثه لا يعنينا حينئذ، ويحمل كلامه على ما حمل عليه كلام من سبقه.


1- تحدثنا عن « الصورة الأدبية وأبعادها النقدية » في مدخل رسالتنا للماجستير « الصورة الأدبية في الشعر الأموي » بكثير من التفصيل وكشفنا موقعها من مسألة اللفظ والمعنى، بما لا مسوغ لإعادته بتفصيلاته المكثفة. وهنا أرى لزاماً عليّ أنألخص بعض ما توصلت إليه هناك: مضيفاً له ما استجد لدي في المصطلح لما تقتضيه الضرورة من الإحاطة بمصطلح الصورة الفنية بين يدي البحث. ( ظ: تفصيل ذلك في: الصورة الأدبية في الشعر الأموي: 10|350 ـ الصورة الفنية الأدبية في الشعر الأموي: 10|350، الصورة الفنية في المثل القرآني: 25 ـ 38 ).

2- الجاحظ: الحيوان: 3|132.

3- قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحد: أ. بونييكر، 4.

4- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 365.

5- الصافات: 48 ـ 49.

6- النور: 39.

7- ابن الأثير: المثل السائر 1|297 وما بعدها.

8- التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون: 1|911.

9- المصدر نفسه: 1|912.

10- المصدر نفسه: 1|912.

11- الجرجاني، اسرار البلاغة: 81.

12- ابن منظور، لسان العرب: 6|143.

13- المصدر نفسه: 6|144.

14- ظ المؤلف: الصورة الأدبية في الشعر الأموي: 20 ـ 35.