سورة العلق
مكية (1) تسع عشرة آية.
وفي حديث أبي: " ومن قرأها فكأنما قرأ المفصل كله " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها ثم مات في يومه أو ليلته مات شهيدا، وبعث شهيدا، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الانسن من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الانسن ما لم يعلم (5) كلا إن الانسن ليطغى (6) أن رءاه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8) أرءيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرءيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرءيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا لبن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كذبة خاطئة (16) فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)﴾
أكثر المفسرين على أنها أول سورة نزلت، وقيل: إن الفاتحة أول ما نزل (4)، وقيل: (يأيها المدثر) (5) (باسم ربك) في محل الحال، أي: اقرأ مفتتحا باسم ربك، قل: بسم الله، ثم اقرأ: (الذي خلق) أي: حصل منه الخلق واستأثر به، لا خالق سواه، و (6) خلق جميع الأشياء، فيتناول كل مخلوق.
ثم قال: (خلق الانسن) خصص الإنسان بالذكر من بين سائر ما يتناوله الخلق لأنه أشرف ما على الأرض (من علق) ولم يقل: من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله: (إن الانسن لفي خسر) (7).
(وربك الأكرم) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، أنعم على عباده بأن أخرجهم إلى الوجود من العدم، وأفاض عليهم ما لا يدخل تحت الحصر من النعم، ويحلم عنهم في ركوبهم المناهي واطراحهم الأوامر، فلا يعاجلهم بالنقم، فما لكرمه نهاية.
(الذي علم بالقلم) أي: علم الخط بالقلم، أو: علم الإنسان البيان بالقلم، أو: الكتابة.
قيل: إن آدم أول من كتب (8)، وقيل: إدريس (9).
(علم الانسن ما لم يعلم) ونقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فجميع ما يعلمه الإنسان من أمور الدين وأنواع العلم من جهته سبحانه: إما بأن اضطره إليه، وإما بأن نصب الدليل عليه في عقله، أو: بينه له على ألسنة ملائكته ورسله، فكل العلوم (10) مضاف إليه مستفاد منه جل اسمه.
(كلا) ردع وتنبيه (11) لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
(أن رءاه) وأن رأى نفسه، يقال في أفعال القلوب: رأيتني، وعلمتني، وذلك من خصائصها، ولو كانت الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين.
و (استغنى) هو المفعول الثاني، أي: لأن رأى نفسه مستغنية عن ربه بأمواله وعشيرته وقوته.
وعن قتادة: إذا أصاب مالا زاد في مراكبه وثيابه وطعامه وشرابه فلذلك طغيانه (12).
(إن إلى ربك الرجعى) واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تحذيرا له من عاقبة الطغيان، و (الرجعى) مصدر كالبشرى، بمعنى الرجوع.
وقيل: نزلت في أبي جهل (13)، فروي أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟قالوا: نعم، قال: فوالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن عنقه، فجاءه ثم نكص على عقبيه يتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة، وقال (عليه السلام): " والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا " فنزلت: (أرءيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) (14).
والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة شديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله (أو) كان (أمر بالتقوى) فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك (إن) كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين، كما نقول نحن (ألم يعلم بأن الله يرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، وهذا وعيد.
وقيل: معناه: أرأيت إن كان هذا الذي صلى على الهدى والطريقة المستقيمة، وأمر بأن تتقى معاصي الله، كيف تكون حال من ينهاه عن الصلاة ويزجره عنها؟(15) فأما تقدير إعرابه، فإن (الذي ينهى) والجملة الشرطية هما في موضع مفعولي (أرءيت)، وحذف جواب الشرط الأول، فكأنه قال: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى.
وجاز حذفه لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني عليه، وصح الاستفهام في جواب الشرط كما تقول: إن أتيتك أتكرمني؟و (أرءيت) الثانية زائدة مكررة توسطت بين مفعولي (أرءيت) الأولى للتوكيد.
(كلا) ردع لأبي جهل وخسأ عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة الأصنام (لئن لم ينته) عما هو فيه " لنسفعن " لنأخذن بناصيته ولنسحبنه (16) بها إلى النار، واكتفى في (الناصية) بلام العهد عن الإضافة لما علم أنها ناصية المذكور، والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة، وكتب (لنسفعا) في المصحف بالألف على حكم الوقف.
(ناصية) بدل من (الناصية) أبدلت عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت فاستقلت بفائدة، ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي، وهما في الحقيقة لصاحبها، وفي ذلك من الفصاحة والجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطئ.
والنادي: المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.
والمراد: أهل النادي، كما قال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم * وأندية ينتابها القول والفعل (17) والمقامة: المجلس.
وعن ابن عباس: أن أبا جهل أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي، فقال له: ألم أنهك؟فانتهره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أتنهرني يا محمد وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟فنزلت: (سندع الزبانية) (18) يعني: الملائكة الموكلين بالنار، وهي في كلام العرب الشرط الواحد، زبنية من: " الزبن " وهو الدفع، كعفرية.
(كلا) ردع لأبي جهل (لا تطعه) يا محمد في النهي عن الصلاة، أي: اثبت على ما أنت عليه من عصيانه (واسجد) ودم على سجودك، وقيل: (واسجد) لله (واقترب) من الله (19).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا سجد " (20).
والسجود هنا من العزائم الأربع.
1- البيت من قصيدة طويلة يمدح بها سنان بن أبي حارثة المري. أنظر ديوان زهير بن أبي سلمى: ص 62.
2- رواه عنه الواحدي في أسباب النزول: ص 396.
3- قاله مجاهد في تفسيره: ص 738.
4- أخرجه ابن عدي في الكامل: ج 2 ص 690 عن أبي هريرة، ورواه الصدوق في الفقيه: ج 1 ص 209 ح 23 عن الصادق (عليه السلام). والكليني في الكافي: ج 3 ص 265 ح 3 عن الرضا (عليه السلام).
5- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 384: مدنية في قول الضحاك، وقال عطاء الخراساني: هي مكية، وهي خمس آيات بلا خلاف. وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 311: مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك، وذكر الواقدي: أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وفي الكشاف: ج 4 ص 780: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها |
6|، نزلت بعد عبس.
7- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 781 مرسلا.
8- ثواب الأعمال للصدوق: ص 152. وبنفس الإسناد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من قرأها فجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله عز وجل، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرات محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه ".
9- رواه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 311.
10- المصدر السابق.
11- المصدر نفسه.
12- صحيح البخاري: ج 3 ص 60 - 61.
13- رواه الصدوق في الفقيه: ج 2 ص 160 ح 2031 عن أحدهما (عليهما السلام) وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف: ج 4 ص 250 ح 7689 - 7692 بأسانيد متعددة.
14- رواه عبد الرزاق في المصنف: ج 4 ص 249 ح 7688 باختلاف في اللفظ.
15- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 4 ص 313 عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن عكرمة عنه.
16- رواه الصدوق في الفقيه: ج 2 ص 159 صدر ح 2029 عن علي بن أبي حمزة.
17- أنظر تفسير الماوردي: ج 6 ص 312.
18- الدخان: 4.
19- وهو قول أبي هريرة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 313.
20- حكاه القشيري. راجع تفسير القرطبي: ج 20 ص 133.