سورة البروج
مكية (1)، وهي اثنتان وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه كان محشره وموقفه مع النبيين فإنها سورة النبيين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والسمآء ذات البروج (1) وا ليوم الموعود (2) وشاهد ومشهود (3) قتل أصحب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السموات والارض والله على كل شىء شهيد (9) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنت ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10) إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم جنت تجرى من تحتها الانهر ذا لك الفوز الكبير (11) إن بطش ربك لشديد (12) إنه هو يبدئ ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد (16) هل أتلك حديث الجنود (17) فرعون وثمود (18) بل الذين كفروا في تكذيب (19) والله من ورآئهم محيط (20) بل هو قرءان مجيد (21) في لوح محفوظ (22)﴾
هي (البروج) الاثنا عشر التي هي قصور السماء، منازل الشمس والقمر والكواكب.
(واليوم الموعود) يوم القيامة.
(وشاهد) في ذلك اليوم (ومشهود) فيه، وقد اختلف أقوال المفسرين فيه: فروي عن الحسن بن علي (عليهما السلام) وابن عباس: أن الشاهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله عز اسمه: (إنآ أرسلنك شهدا) (4)، والمشهود يوم القيامة لقوله تعالى: (وذلك يوم مشهود) (5) (6).
وعن ابن عباس أيضا: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة (7).
وعن أبي الدرداء: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة (8).
وقيل: الحجر الأسود والحجيج (9).
وقيل: الأيام والليالي وبنو آدم (10).
جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: (قتل أصحب الأخدود)، كأنه قال: أقسم بهذه الأشياء أنهم الملعونون، يعني: كفار قريش، كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان مع صبرهم وثباتهم حتى يقتدوا بهم، ويصبروا على ما يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم بمنزلة أولئك المحرقين بالنار، ملعونون معذبون، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلوا كما قتل أصحاب الأخدود، و (قتل) دعاء عليهم، أي: لعنوا بتحريقهم المؤمنين، والأخدود: الخد في الأرض، وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق، ومنه الحديث: " فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان " (11).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه وأعجبه كلامه، ثم رأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، ثم كان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأمراض، فأخذ الملك الغلام فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر أن يذهب به إلى جبل فيطرح من ذروته، فدعا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجفت بهم الخيل ونجا، فذهب به إلى قرقور (12) فلججوا به ليغرقوه، فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: قد نزل بك ما كنت تخاف: آمن الناس! فأمر بأخاديد على أفواه السكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق، فاقتحمت " (13).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء " (14).
وعن ابن عباس: أدخل أرواحهم الجنة قبل أن تصل أجسادهم إلى النار (15).
(النار) بدل الاشتمال من (الأخدود)، (ذات الوقود) وصف لها بأنها نار عظيمة كثيرة الحطب، أو: ظرف لـ (قتل) أي: لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.
ومعنى (عليها): على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كقول الأعشى: وبات على النار الندى والمحلق (16) والشهود: جمع شاهد، أي: وهم يشهدون على إحراق المؤمنين، وكلوا بذلك ليشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به.
(وما نقموا منهم) وما عابوا منهم، وما أنكروا (إلا) الإيمان، كقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم (17) وذكر الأوصاف التي استحق سبحانه بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه " عزيزا " أي: غالبا قادرا قاهرا " حميدا " أي: منعما، محمودا على نعمه، له التصرف في (السموت والأرض والله على كل شىء شهيد) وعيد لهم.
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي: أحرقوهم وعذبوهم بالنار، وهم أصحاب الأخدود (فلهم) في الآخرة (عذاب جهنم) بكفرهم (ولهم عذاب الحريق) في الدنيا، لما روي: أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم (18).
ويجوز أن يريد: (الذين فتنوا المؤمنين) أي: بلوهم بالأذى على العموم، لهم عذابان في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم.
البطش: الأخذ بالعنف، فإذا وصفه بالشدة فقد تضاعف وتفاقم.
(إنه هو يبدئ) البطش (ويعيد) ه، أي: يبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو: هو وعيد للكفار بأنه يعيدهم كما أبدأهم، ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة.
و (الودود): الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود.
قرئ: (المجيد) بالجر (19) صفة لـ (العرش)، ومجده: علوه وعظمه، كما أن مجد الله عظمته، وبالرفع.
(فعال) خبر مبتدأ محذوف.
(فرعون وثمود) بدل من (الجنود)، وأراد بفرعون إياه وآله، كما قال: (من فرعون وملئهم) (20)، والمعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل، وما نزل بهم لتكذيبهم.
(بل الذين كفروا) من قومك (في تكذيب) لك واستيجاب للعذاب.
(والله) عالم بأحوالهم وقادر عليهم، والإحاطة (من ورآئهم) مثل لأنهم لا يفوتونه ولا يعجزونه، ومعنى الإضراب: أن أمرهم أعجب من أمر أولئك، لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ولم يعتبروا، وكذبوا أشد من تكذيبهم.
(بل) هذا الذي كذبوا به (قرءان مجيد) شريف جليل القدر، كثير الخير، عالي الطبقة في الكتب، وفي نظمه وإعجازه، وقرئ: (محفوظ) بالرفع (21) صفة للقرآن، وبالجر صفة لللوح.
1- قرأه حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
2- يونس: 83.
3- قرأه نافع وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
4- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 322: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي سبع عشرة آية في الكوفي والبصري والمدني الأخير، وست عشرة آية في المدني الأول. وفي الكشاف: ج 4 ص 734: مكية، وآياتها (17)، نزلت بعد البلد.
5- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 737 مرسلا.
6- ثواب الأعمال للصدوق: ص 150، وزاد في آخره: " في الجنة ".
7- وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
8- الأحزاب: 52.
9- تفسير مجاهد: ص 720.
10- في بعض النسخ: " سورة سبح اسم ".
11- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 329: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: هي مدنية، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 737: مكية، وآياتها (19)، نزلت بعد التكوير.
12- وفي الإتقان: ج 1 ص 52: الجمهور على أنها - أي سورة الأعلى - مكية، وقال ابن الفرس: وقيل: إنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها.
13- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 741 مرسلا.
14- ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
15- تفسير ابن عباس: ص 508.
16- الواقعة: 74 و 96، الحاقة: 52.
17- أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 287 ح 887 عن عقبة بن عامر الجهني.
18- قرأه الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 680.
19- حكاه عنه (عليه السلام) الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 256.
20- البقرة: 106.
21- قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي. راجع تفسير الآلوسي: ج 30 ص 108.