سورة الانشقاق ([1])

مكية (2) وهي خمس وعشرون آية كوفي، ثلاث بصري.

(كتبه بيمينه) (3)، (ورآء ظهره) (4)، كلاهما كوفي.

في حديث أبي: " ومن قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره " (5). (6)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إذا السمآء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الأرض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) يأيها الانسن إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه (6) فأما من أوتى كتبه بيمينه ى (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله ى مسرورا (9) وأما من أوتى كتبه ورآء ظهره ى (10) فسوف يدعوا ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله ى مسرورا (13) إنه ظن أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به ى بصيرا (15) فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرءان لا يسجدون (21) بل الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب أليم (24) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم أجر غير ممنون (25)﴾

(انشقت) تصدعت وانفرجت، وجواب (إذا) ما دل عليه قوله: (فملقيه) أي: إذا انشقت السماء لاقى الإنسان كدحه، أو: حذف الجواب ليذهب المقدر كل مذهب.

والمعنى: إذا انشقت السماء بالغمام، كما في قوله: (ويوم تشقق السمآء بالغمم) (7).

والأذن: الاستماع، قال عدي: في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ماذي مشار (8) ومنه قوله (عليه السلام): " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " (9).

والمعنى: أنها فعلت في انقيادها حين أراد انشقاقها فعل المطيع إذا ورد الأمر عليه من المطاع: أذعن له وأنصت ولم يمتنع، كقوله: (أتينا طئعين) (10).

(وحقت) من قولك: هو محقوق بكذا، وحقيق به.

والمعنى: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تأبى.

(مدت) أي: بسطت بأن تزال جبالها وكل أمت فيها حتى تمتد وتنبسط، كقوله: (قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) (11).

(وألقت ما فيها) ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الأموات والكنوز، مثل: (وأخرجت الأرض أثقالها) (12)، (وتخلت) وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كقولهم: تكرم وتشجع ونحوهما.

والمعنى: بلغ الجهد فيه، وتكلف فوق ما في طبعه.

والكدح: الكد في العمل، وجهد النفس فيه حتى يؤثر فيها، من: كدح جلده إذا خدشه، والمعنى: (إنك) جاهد (إلى) لقاء (ربك) وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء، (فملقيه) فملاق له لا محالة، لا مفر لك منه، وقيل: الضمير في (ملقيه) للكدح (13).

(حسابا يسيرا) أي: سهلا هينا لا يناقش فيه، وروي: أن الحساب اليسير هو الإثابة على الحسنات والتجاوز عن السيئات، ومن نوقش في الحساب عذب (14).

(وينقلب إلى أهله) من الحور العين في الجنة، أو: إلى أولاده وعشائره وقد سبقوه إلى الجنة.

(ورآء ظهره) لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وشماله خلف ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.

(فسوف يدعوا ثبورا) ويقول: يا ثبوراه، والثبور: الهلاك.

(ويصلى سعيرا) ويصير صلاء للنار المسعرة، وقرئ: " ويصلى ? (15) كقوله: (وتصلية جحيم) (16).

(إنه كان في أهله) فيما بين أظهرهم أو: معهم، على أنهم كانوا جميعا مسرورين، والمعنى: أنه كان مترفا في الدنيا بطرا، ما كان يهمه أمر الآخرة ولا يفكر فيها.

(إنه ظن أن لن يحور) لن يرجع إلى الله، تكذيبا بالبعث، فارتكب المآثم وانتهك المحارم، قال لبيد: يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (17) (بلى) إيجاب لما بعد النفي، أي: بلى ليحورن وليبعثن، وليس الأمر كما ظنه، (إن ربه كان به بصيرا) وبأعماله، لا يخفى عليه شيء منها، فلابد أن يرجعه ويجازيه عليها.

والشفق: الحمرة التي تبقى عند المغرب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب.

(وما وسق) وما جمع وضم مما كان منتشرا بالنهار، يقال: وسقه فاتسق واستوسق.

(والقمر إذا اتسق) إذا اجتمع واستوى وتم ليلة أربع عشرة.

(لتركبن) جواب القسم، قرئ بضم الباء وفتحها (18).

فالفتح على خطاب الإنسان في: (يأيها الانسن) والضم على خطاب الجنس، لأن النداء للجنس، والطبق: ما طابق غيره، يقال: ما هذا بطبق لذا، أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء: الطبق، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق، ومنه قوله: (طبقا عن طبق) أي: حالا بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول.

ويجوز أن يكون جمع: طبقة، وهي المرتبة، على معنى: لتركبن أحوالا بعد أحوال، وهي طبقات بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة، و (عن طبق) صفة، أي: طبقا مجاوزا لطبق، أو: حال من الضمير في (لتركبن) أي: مجاوزين، أو: مجاوزا، وعن مكحول: لتحدثن أمرا لم تكونوا عليه في كل عشرين سنة (19).

وعن أبي عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم (20)، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (21).

(فمالهم) تبكيت وتقريع للكفار، والمعنى: أي عذر لهم في ترك الإيمان والسجود لله إذا تلي (عليهم القرءان) مع وضوح الدلائل؟وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ ذات يوم: (واسجد واقترب) فسجد ومن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت (22).

(يوعون) يجمعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من الكفر والحسد والبغي، أو: يجمعون في صحفهم من الأعمال السيئة ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.

(إلا الذين ءامنوا) استثناء منقطع (غير ممنون) غير منقوص ولا مقطوع.


1- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728.

2- مجاز القرآن لأبي عبيدة: ج 2 ص 292.

3- رواه الصدوق في كمال الدين: ص 480.

4- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728، والآية: 19 من سورة العلق.

5- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 315: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي اثنتان وعشرون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 729: مكية، وآياتها (22)، نزلت بعد الشمس.

6- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 733 مرسلا.

7- ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وزاد بعد " النبيين ": " والمرسلين والصالحين ".

8- الأحزاب: 45.

9- هود: 103.

10- رواه عنهما الطبري في تفسيره: ج 12 ص 521.

11- تفسير ابن عباس: ص 506.

12- حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 31 ص 114.

13- قاله أبو بكر العطار. راجع تفسير القرطبي: ج 19 ص 286.

14- وهو ما رواه أبو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير القرطبي: ج 19 ص 284.

15- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 730 مرسلا.

16- القرقور: السفينة الطويلة. (الصحاح: مادة قرقر).

17- أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2299 ح 3005 عن صهيب.

18- أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 467 عن الحسن وعزاه إلى ابن أبي شيبة في مصنفه.

19- تفسير ابن عباس: ص 507.

20- وصدره: تشب لمقرورين يصطليانها. من قصيدة طويلة يمدح المحلق بن خنثم وكان فقيرا وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن، فنزل به الأعشى وأحسن قراه فعظم عنده ومدحه في عكاظ، فلم يلبث حتى خطبت بناته. أنظر ديوان الأعشى: ص 125.

21- وعجزه: بهن فلول من قراع الكتائب. للنابغة الذبياني من أبيات يصف فرسانا. وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 689.

22- وهو ما رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 525 عن الربيع بن أنس.