سورة المطففين

مختلف فيها (1) (1) ستة وثلاثون آية.

في حديث أبي: " ومن قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة " (2).

وعن الصادق (عليه السلام): " من كانت قراءته في الفريضة: (ويل للمطففين) أعطاه الله يوم القيامة الأمن من النار، ولم تره ولا يراها، ولا يمر على جسر جهنم ولا يحاسب " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون (4) ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العلمين (6) كلا إن كتب الفجار لفي سجين (7) ومآ أدراك ما سجين (8) كتب مرقوم (9) ويل يومئذ للمكذبين (10) الذين يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به ى إلا كل معتد أثيم (12) إذا تتلى عليه ءايتنا قال أسطير الاولين (13) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي كنتم به ى تكذبون (17) كلا إن كتب الأبرار لفي عليين (18) ومآ أدراك ما عليون (19) كتب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إن الأبرار لفي نعيم (22) على الارآئك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختمه مسك وفي ذا لك فليتنافس المتنفسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها المقربون (28) إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون (29) وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضآلون (32) ومآ أرسلوا عليهم حفظين (33) فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون (34) على الارآئك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون (36)﴾

التطفيف: نقص المكيال والميزان والبخس فيهما، لأن ما يبخس في الكيل والوزن شيء طفيف نزر.

ولما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة كانوا أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل بعد ذلك (4).

وقال (عليه السلام) لهم: " خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، وما منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر " (5).

(اكتالوا على الناس) لما كان اكتيالهم اكتيالا يضر الناس أبدل " على " مكان " من " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق (على) بـ (يستوفون) وتقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: (يستوفون) على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها.

وقال الفراء: " من " و " على " تعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فكأنه قال: استوفيت منك (6).

والضمير في (كالوهم أو وزنوهم) ضمير منصوب راجع إلى (الناس)، وفيه وجهان: أن يراد: كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا * ولقد نهيتك عن نبات الأوبر (7) وفي المثل: (8) ? والحريص يصيدك لا الجواد " (9).

والمعنى: جنيت لك، و: يصيد لك.

وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يجوز أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين لأنه يصير المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهذا الكلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، ومعنى (يخسرون): ينقصون، يقال: خسر الميزان وأخسره.

(ألا يظن أولئك) تعجيب وإنكار عظيم عليهم في الاجتراء على التطفيف، كأنه لا يخطر ببالهم (أنهم مبعوثون) ومحاسبون، وعن قتادة: أوف يا بن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك (10).

وذكر: أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله في المطففين؟أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه هذا الوعيد العظيم، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن؟(11) وقيل: إن الظن بمعنى اليقين (12).

و (يوم يقوم) ظرف لـ (مبعوثون).

(كلا) ردع عن التطفيف والغفلة عن ذكر الحساب والبعث (إن كتب الفجار) أي: ما يكتب من أعمالهم (لفي سجين) قيل: هو جب في جهنم (13).

و (كتب مرقوم) خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو كتاب، أي: هو موضع كتاب، فحذف المبتدأ والمضاف جميعا، وقيل (14): (سجين) كتاب جامع هو ديوان الشر، دون الله فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو (كتب مرقوم) مسطور بين الكتابة، أو: معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، والمعنى: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وهو " فعيل " من " السجن " لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو: لأنه مطروح - كما روي (15) - تحت الأرض السابعة في موضع وحش يشهده الشياطين كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقربون، وهو اسم علم منقول من وصف ك? " حاتم ".

(الذين يكذبون) مما وصف به للذم لا للبيان، كما تقول: فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث.

(كلا) ردع للمعتدي الأثيم عن قوله، ومعنى (ران على قلوبهم): ركبها كما يركب الصدأ، وغلب عليها، وهو أن يصر على الكبائر حتى يطبع على قلبه فلا يقبل الخير ولا يميل إليه، وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب (16).

يقال: ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا.

والرين والغين: الغيم.

وران فيه النوم: رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به.

وقرئ: (بل ران) بإدغام اللام في الراء والإظهار، والإدغام أجود، وبإمالة الألف وتفخيمها (17).

(كلا) ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وكونهم " محجوبين عن ربهم " تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين، وعن ابن عباس: عن رحمة ربهم وكرامته (18).

(كلا) ردع عن التكذيب، و (كتب الأبرار) ما كتب من أعمالهم، وعليون: علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عمله المقربون، والأبرار: المتقون من الإنس والجن، منقول من جمع " علي " فعيل من العلو، سمي بذلك: إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة تحت العرش حيث يسكن الكروبيون، ويدل عليه قوله: (يشهده المقربون)، وقيل: سدرة المنتهى (19).

والأرائك: الأسرة في الحجال (ينظرون) إلى ما شاءوا مد أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما آتاهم الله من النعيم والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار.

(تعرف في وجوههم) بهجة (النعيم) ونضرته وماءه، وقرئ: " تعرف " على البناء للمفعول، و " نضرة النعيم " بالرفع (20).

(يسقون من رحيق) خمر صافية خالصة من كل غش (مختوم) أوانيه بمسك مكان الطينة.

وقيل: (ختمه مسك) مقطعة رائحة مسك إذا شرب (21)، وقيل: يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك (22).

وقرئ: " خاتمه " بفتح التاء (23)، أي: ما يختم به ويقطع.

(وفي ذلك فليتنافس المتنفسون) فليرغب الراغبون، ونحوه: (لمثل هذا فليعمل العملون) (24).

ومزاج ذلك الشراب (من تسنيم) وهو علم لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر: " سنمه " إذا رفعه: إما لأنها أرفع شراب في الجنة، وإما لأنها تأتيهم من فوق، وعن قتادة: هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة (25).

(عينا) نصب على المدح، وقال الزجاج: نصب على الحال (26).

(إن الذين أجرموا) هم المشركون (كانوا.

يضحكون) من عمار وخباب وصهيب وغيرهم من فقراء المؤمنين، ويستهزئون بهم.

وروي: أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) جاء في نفر من المسلمين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه، فنزلت قبل أن يصل علي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (27).

وروى أبو صالح عن ابن عباس: (إن الذين أجرموا) منافقو قريش (يتغامزون) يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم (28).

قرئ: (فكهين) و " فاكهين ? (29) أي: متلذذين بذكرهم والسخرية منهم.

(ومآ أرسلوا) على المؤمنين (حفظين) موكلين بهم يحفظون أحوالهم عليهم، ولو اشتغلوا بما كلفوا لكان ذلك أولى بهم.

(فاليوم) يعني: يوم القيامة (الذين ءامنوا.

يضحكون) من الكفار كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، روي: أنه يفتح باب للكفار إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم.

يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون (30).

(ينظرون) إليهم على سرر في الحجال، وهي: (الارآئك)، (ينظرون) حال من (يضحكون) أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم على الأرائك آمنون.

(هل ثوب) هل جوزي (الكفار) إذا فعل بهم هذا (ما كانوا يفعلون?) - ه من السخرية بالمؤمنين؟يقال: ثوبه وأثابه: إذا جازاه، قال أوس: سأجزيك أو يجزيك عني مثوب * وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي (31)


1- قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 229.

2- قرأه أبو جعفر ويعقوب. راجع التبيان: ج 10 ص 301.

3- قاله ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك. راجع المصدر السابق: ص 303.

4- قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 230.

5- وهي قراءة الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 676.

6- الصافات: 61.

7- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 461.

8- معاني القرآن: ج 5 ص 301.

9- رواه مقاتل والكعبي. راجع مناقب الخوارزمي: ص 186، وتفسير الرازي: ج 31 ص 101. ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 328 ح 1084 باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفي ص 329 ح 1086 باسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وفي ح 1087 عن تفسير مقاتل مسندا.

10- رواه الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 328 ح 1085، والحبري في تفسيره: ص 320 ح 50 عنه.

11- وهي قراءة الجمهور إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 676.

12- رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 462 عن أبي صالح.

13- من قصيدة يمدح بها امرأة ويثني عليها، ويذكر يدها عنده. أنظر ديوان أوس بن حجر: ص 27، وفيه: " وقصرك " بدل " وحسبك " وهما بمعنى.

14- في بعض النسخ: " سورة انشقت " وأخرى: " السمآء انشقت ".

15- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 307: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي خمس وعشرون آية في الكوفي والمدنيين، وثلاث في البصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 725: مكية، وآياتها (25)، نزلت بعد الانفطار.

16- الآية: 7.

17- الآية: 10.

18- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728 مرسلا.

19- وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في فضلها عند الحديث عن فضائل سورة الانفطار الآنفة.

20- الفرقان: 25.

21- لعدي بن زيد العبادي، والماذي: العسل الأبيض، ومعناه واضح. أنظر العقد الفريد: ج 5 ص 409.

22- أخرجه الدارمي في السنن: ج 2 ص 473 عن أبي هريرة، وزاد: " وجهر به ".

23- فصلت: 11.

24- طه: 106 و 107.

25- الزلزلة: 2.

26- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 502.

27- أخرجه أحمد في المسند: ج 6 ص 127 عن عائشة.

28- قرأه نافع برواية خارجة وعاصم برواية أبان بضم الياء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي بضمها وتشديد اللام. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 677.

29- الواقعة: 94.

30- وصدره: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه. من قصيدة يرثي بها أخاه أربد. وهو من أشعار الحكمة، يقول: كل امرئ يخبو بعد توقد وذلك حين تدركه المنية، كالنار تكون ساطعة الضوء ثم تصبح رمادا. أنظر ديوان لبيد بن ربيعة: ص 88.

31- وبفتحها قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 677.