سورة التكوير ([1])

مكية (2) وهي تسع وعشرون آية.

في حديث أبي: " من قرأ إذا الشمس كورت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته " (3) (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10) وإذا السمآء كشطت (11) وإذا الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس مآ أحضرت (14)﴾

(الشمس) مرفوع بالفاعلية، رافعها فعل مضمر يفسره: (كورت)، لأن (إذا) يطلب الفعل لتضمنه معنى الشرط، وكذا الجميع.

وعن ابن عباس: (كورت): ذهب نورها وضوؤها (4).

وفيه وجهان: أن يكون من تكوير العمامة وهو لفها، أي: يلف ضوؤها فيذهب انتشاره وانبساطه في الآفاق، وهي عبارة عن إزالتها والذهاب بها، أو: يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها لأن الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي، وأن يكون من: طعنه فكوره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصف النجوم بالانكدار وهو الانقضاض، وعن مجاهد: (انكدرت) تناثرت وتساقطت (5).

(سيرت) عن وجه الأرض وأبعدت، أو: سيرت في الجو تسيير السحاب.

كقوله: (وهى تمر مر السحاب) (6).

و (العشار) جمع " العشراء " كالنفاس في جمع " النفساء "، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر فصاعدا، وهي أنفس ما تكون عند أهلها (عطلت) تركت مسيبة مهملة لاشتغال أهلها بنفوسهم.

(حشرت) جمعت حتى يتقص لبعضها من بعض، ويوصل إليها ما استحقته من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا.

وعن ابن عباس: حشرها: موتها (7).

(سجرت) قرئ بالتشديد والتخفيف (8) من: سجر التنور: إذا ملاها بالحطب، أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى يصير بحرا واحدا، وقيل: أوقدت فصارت نارا تضطرم (9).

(زوجت) قرنت كل نفس بشكلها، وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد (10)، وقيل: قرنت نفوس الصالحين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين (11).

وأد يئد مقلوب من: آد يؤود: إذا ثقل لأنه إثقال بالتراب.

والمعنى في سؤال (الموءودة) عن ذنبها الذي قتلت به: التبكيت والتوبيخ لقاتلها، ويجري مجرى قوله سبحانه لعيسى: (ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله) (12).

وعن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " سألت بأي ذنب قتلت " وهي قراءة ابن عباس ومجاهد (13)، أي: خاصمت عن نفسها وسألت الله، أو: قاتلها.

وعن الباقر والصادق (عليهما السلام): (وإذا الموءودة سئلت) والمراد به: الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها (14).

وقالا: هو من قتل في مودتنا وولايتنا (15).

وعلى هذا فيكون من باب حذف المضاف.

وقرئ: " قتلت " بالتشديد (16).

وفي الآية دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون بذنوب آبائهم، وأن التعذيب لا يكون إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح بأن يكر عليها بعد هذا التبكيت فيعذبها، وعن ابن عباس: أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية (17).

(نشرت) قرئ بالتخفيف والتشديد (18)، والمراد: صحف الأعمال، تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يحشر الناس حفاة عراة، فقالت أم سلمة: كيف بالنساء؟فقال: شغل الناس يا أم سلمة، فقالت: وما شغلهم؟قال: نشر الصحف وفيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل (19).

ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أي: فرقت بينهم.

(كشطت) كشفت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء.

(سعرت) قرئ بالتخفيف (20) والتشديد: أوقدت إيقادا شديدا، قيل: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم (21).

(أزلفت) أي: قربت من أهلها بما فيها من النعيم.

(علمت) هو عامل النصب في: (إذا الشمس كورت) وفيما عطف عليه.

وعن ابن مسعود: أن قارئا قرأها عنده، فلما بلغ: (علمت نفس مآ أحضرت) قال: وانقطاع ظهرياه! (22)

﴿فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19) ذى قوة عند ذى العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صآحبكم بمجنون (22) ولقد رءاه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) ومآ هو بقول شيطن رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعلمين (27) لمن شآء منكم أن يستقيم (28) وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العلمين (29)﴾

(الخنس) النجوم الخمسة الرواجع (23)، بينا ترى الكواكب في آخر البرج إذا كر راجعا إلى أوله.

و " الجواري ": السيارة، و (الكنس): الغيب، من: كنس الوحشي: إذا دخل كناسه، فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.

وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها (24).

(عسعس) الليل وسعسع: إذا أدبر، وقيل: عسعس: إذا أقبل ظلامه (25).

و (تنفس) امتد ضوؤه، والمعنى فيه: أن الصبح إذا أقبل، أقبل النسيم بإقباله، فجعل ذلك كالنفس له.

(إنه) الضمير للقرآن (لقول رسول كريم) على ربه، وهو جبرائيل (عليه السلام).

(ذى قوة) هو كقوله: (شديد القوى ذو مرة) (26)، (عند ذى العرش مكين) متمكن عند صاحب العرش وهو الله جل جلاله.

(مطاع ثم) أي: في السماء، يطيعه ملائكة السماء، يصدرون عن أمره (أمين) على وحي الله إلى أنبيائه.

(وما صاحبكم بمجنون) وهو معطوف على جواب القسم.

(ولقد) رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل على صورته التي خلقه الله تعالى عليها (بالأفق المبين) بمطلع الشمس الأعلى.

(وما) محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (على) ما يخبر به من (الغيب) والوحي " بظنين ? (27) بمتهم، فإن أحواله ناطقة بالصدق والأمانة، وهو من: الظنة وهي التهمة، وقرئ: (بضنين) بالضاد، من: الضن وهو البخل، أي: لا يبخل بالوحي بأن يسأل تعليمه فلا يعلمه، أو: يزوي بعضه فلا يبلغه.

والفرق بين الضاد والظاء: أن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وهي إحدى الحروف الشجرية: أخت الجيم والشين (28).

والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي إحدى الحروف الذولقية (29): أخت الذال والتاء.

(وما) القرآن (بقول شيطن رجيم) مرجوم بالشهب، كما زعم الكفار أن الشيطان يلقى إليه كما كان يلقى إلى أوليائه من الكهنة، (فأين تذهبون) استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا: أين تذهب؟مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.

(إن هو) الضمير للقرآن (إلا ذكر) أي: عظة وتذكرة (للعلمين).

(لمن شآء منكم) بدل من (للعلمين)، وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعا.

(وما تشآءون) الاستقامة يا من تشاؤونها (إلا) بتوفيق (الله) ولطفه، أو: ما تشاؤونها أنتم يا من لا تشاؤونها إلا بإلجاء الله وقسره.


1- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.

2- قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 466.

3- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 710.

4- في الصحاح: هي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.

5- قاله الحسن وبكر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن زيد، ورووه عن علي (عليه السلام). راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 467.

6- قاله الحسن وعطية. راجع المصدر السابق: ص 470.

7- النجم: 5 و 6.

8- الظاهر أن المصنف (رحمه الله) قد اعتمد هنا - تبعا للكشاف - على القراءة بالظاء، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، والباقون بالضاد. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.

9- وسميت بالشجرية لخروجها من الشجر وهو مخرج الفم، ويقال: هي الشين والجيم والقاف والكاف والياء. (المنجد: مادة " شجر ").

10- وسميت بالذولقية لكون مخرجها طرف اللسان والشفتين، من: ذلق الشيء: حده، وذلق اللسان: طرفه. ويقال لها أيضا: أحرف الذلاقة. (المنجد: مادة " ذلق ").

11- في بعض النسخ: " سورة انفطرت ".

12- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 289: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 714: مكية، وآياتها (19) نزلت بعد النازعات.

13- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 717 مرسلا.

14- ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وفيه: " لم يحجبه الله من حاجته، ولم يحجزه الله من حاجز ".

15- القيامة: 13.

16- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 715 مرسلا.

17- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 403.

18- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 455.

19- المصدر السابق.

20- نسبه البغوي في تفسيره: ص 456 إلى بعض أهل الإشارة، وفي الكشاف: ج 4 ص 715 إلى الحشوية.

21- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 715.

22- الظاهر أن المصنف قد اعتمد هنا - تبعا للكشاف - على قراءة التشديد، وهي قراءة الجمهور غير الكوفيين راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 674.

23- المائدة: 37.

24- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 674.

25- يريد: أن " اليوم " مما جرى في أكثر الأمر ظرفا ترك عليه.

26- الذاريات: 13.

27- في نسخة: " مكية إلا ست آيات ".

28- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 295: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: هي مدنية. وهي ست وثلاثون آية بلا خلاف. وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 225: مكية في قول ابن مسعود والضحاك ويحيى بن سلام، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل، قال مقاتل: هي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات، من قوله تعالى: (إن الذين أجرموا) إلى آخرها مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: قد نزلت بين مكة والمدينة. وفي الكشاف: ج 4 ص 718: مكية، وآياتها (36) نزلت بعد العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكة.

29- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 724 مرسلا.