سورة عبس
مكية (1) وهي اثنتان وأربعون آية كوفي، وآية بصري عد الكوفي (ولأنعمكم) (2).
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة عبس و (إذا الشمس كورت) كان في ظل الله وكرامته في جنانه " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿عبس وتولى (1) أن جآءه الاعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5) فأنت له تصدى (6) وما عليك ألا يزكى (7) وأما من جآءك يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت عنه تلهى (10) كلا إنها تذكرة (11) فمن شآء ذكره (12) في صحف مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام بررة (16) قتل الانسن مآ أكفره (17) من أي شىء خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته فأقبره (21) ثم إذا شآء أنشره (22) كلا لما يقض مآ أمره (23)﴾
أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وهو ابن أم مكتوم، وعنده صناديد قريش: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والعباس بن عبد المطلب، وأبي وأمية ابنا خلف، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعه لكلامه، وعبس، وأقبل على القوم يكلمهم (5)، فنزلت، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكرمه ويقول إذا رآه " مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين (2) (6).
(أن جآءه) منصوب بـ (تولى) و (عبس) على اختلاف المذهبين، ومعناه: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك، وروي أنه (عليه السلام) ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني (7) (وما يدريك) أي: وأي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى (لعله يزكى) أي: يتطهر بما يتلقن من الشرائع ويتعلم.
(أو يذكر) أو يتعظ (فتنفعه) ذكراك أي: موعظتك، وقيل: إن الضمير في (لعله) للكافر (8).
والمعنى: إنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يتذكر ويقبل الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟وقرئ: (فتنفعه) بالرفع (9) عطفا على (يذكر)، وبالنصب جوابا ل? " لعل ".
(فأنت له تصدى) تتصدى أي: تتعرض بالإقبال عليه، وقرئ: " تصدى " بإدغام التاء في الصاد (10)، وقرأ الباقر (عليه السلام): " تصدى " و " تلهى " بضم التاء فيهما (11)، والمعنى: يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه، ويلهيك شأن الصناديد عنه.
(وما عليك ألا يزكى) وليس عليك بأس، أو: أي شيء عليك في أن لا يتزكى بالإسلام، (إن عليك إلا البلغ) (12).
(وأما من جآءك يسعى) في طلب الخير (وهو يخشى) الله، أو: يخشى الكفار.
وإذا هم في إتيانك (فأنت عنه تلهى) تتشاغل، من: لهى عنه وتلهى.
(كلا) ردع عن معاودة مثله (إنها تذكرة) أي: موعظة يجب الاتعاظ بها.
(فمن شآء ذكره) أي: كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير لأن " التذكرة " في معنى " الذكر ".
(في صحف) صفة لـ (تذكرة) يعني: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح (مكرمة) عند الله.
(مرفوعة) في السماء، أو: مرفوعة المقدار (مطهرة) منزهة عن الشياطين، لا يمسها إلا (أيدي) ملائكة مطهرين (سفرة) كتبة ينتسخون الكتب من اللوح.
(كرام) على ربهم (بررة) أتقياء، وقيل: هي صحف الأنبياء (13)، كقوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى) (14).
(قتل الانسن) دعاء عليه (ما أكفره) تعجب من إفراطه في كفران نعم الله عز اسمه.
ثم وصف حاله منذ (15) مبدأ حدوثه إلى منتهاه، وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها الداعية إلى الإيمان والتوحيد، الموجبة للشكر والعبادة، فقال: (من أي شىء خلقه) أي: من أي شيء حقير مهين أنشأه وابتدأه؟ثم بين ذلك الشيء فقال: (من نطفة خلقه فقدره) فهيأه لما يصلح له ويختص به حالا بعد حال، وطورا بعد طور: نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه.
(ثم السبيل يسره): نصب (السبيل) بمضمر يفسره: (يسره) ومعناه: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو: السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر بإقداره وتمكينه، ونحوه: (وهديناه النجدين) (16)، وعن ابن عباس: بين له سبيل الخير والشر (17).
(فأقبره) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا بالعراء جزرا للسباع والطير.
(أنشره) أنشأه النشأة الأخرى.
(كلا) ردع للإنسان عما هو عليه (لما يقض) بعد تطاول الدهور من لدن آدم إلى هذه الغاية (مآ أمره) الله تعالى حتى يخرج عن جميع أوامره ويؤدي حق نعمه عليه مع كثرتها، ولما يعبده حق عبادته.
﴿فلينظر الانسن إلى طعامه ى (24) أنا صببنا المآء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدآئق غلبا (30) وفكهة وأبا (31) متعا لكم ولانعمكم (32) فإذا جآءت الصآخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصحبته ى وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة (42)﴾
لما عدد سبحانه النعم في نفسه أتبعها بذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال: (فلينظر الانسن إلى طعامه) الذي يتقوته كيف هيأناه لرزقه (أنا صببنا) قرئ بالكسر (18) على الاستئناف، وبالفتح على البدل من " الطعام "، ويعني بالماء: الغيث (ثم شققنا الأرض) بالنبات.
وأراد بالحب: جنس الحبوب التي يتعذى بها.
وخص " العنب " لكثرة منافعه، و " القضب ": الرطبة تقتضب مرة بعد أخرى لعلف الدواب.
(وحدآئق غلبا) ملتفة الشجر، وأصلها: الغلب الرقاب لغلاظها، فاستعير.
والأب: المرعى لأنه يؤب أي: يؤم وينتجع، والأب والأم أخوان، قال: جذمنا قيس ونجد دارنا * ولنا الأب به والمكرع (19) (متعا لكم) أي: تمتيعا.
و (الصآخة): صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان، تبالغ في سماعها حتى تكاد تصمها.
(يوم يفر المرء من) أقرب الخلق إليه، لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، أو: للحذر من مطالبتهم بالتبعات، يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم ترشدنا ولم تعلمنا.
(يغنيه) يكفيه في الاهتمام به.
(وجوه.
مسفرة) مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا أضاء، وعن ابن عباس: من قيام الليل (20).
وفي الحديث: " من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " (21).
والغبرة: الغبار.
(ترهقها) أي: تعلوها (قترة) وهي السواد كالدخان.
1- أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 422 ح 1333 عن جابر.
2- في نسخة: " سورة كورت " وأخرى: " إذا الشمس كورت ".
3- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 279: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 706: مكية، وآياتها (29) نزلت بعد المسد.
4- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 714 مرسلا.
5- وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) عن فضلها عند الحديث عن فضل سورة عبس.
6- تفسير ابن عباس: ص 502.
7- رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 458.
8- النمل: 88.
9- تفسير ابن عباس: ص 502.
10- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.
11- قاله أبي بن كعب وابن عباس وابن زيد وشمر بن عطية وسفيان، ورووه عن علي (عليه السلام). راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 460.
12- قاله عكرمة والشعبي. راجع المصدر السابق: ص 463.
13- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 502.
14- المائدة: 116.
15- أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 169.
16- تفسير فرات الكوفي: ص 204.
17- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 407، و تفسير فرات: ص 203.
18- قرأه أبو جعفر المدني. راجع التبيان: ج 10 ص 280.
19- حكاه النحاس في إعراب القرآن: ج 5 ص 158.
20- وبالتشديد قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.
21- أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 423 وعزاه إلى الطبراني في الأوسط.